في الحقيقة حزنت جدًّا حينما سمعت في ليلة عيد الميلاد المجيد خبر انتقال الأستاذ الدكتور الذياكون المهندس فخري صادق الذي كنت معه قبلها بيوم وقد تزود من الأسرار الإلهية وقال لي: “تعبت قوي!!”؛ فكانت السماء مفتوحة وقتها وأسرع منا إليه، فقد كانت روحه هناك حيث كنزه الذي أعده “لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا”(مت6: 21).
وُلد في بني مزار من والدين تقيين مسيحيين أرثوذكسيين، هما السيد صادق جرجس، السيدة نجية جبران بشاي في 9 أغسطس 1932م، وقد سُجل في شهادة الميلاد يوم 5 يناير 1933م. هو الابن الثالث بين إخوته الأربع، السيدة تفيدة زوجة المتنيح معوض داود عبد النور، والأرشيذياكون فوزي، والسيدة فوزية (أطال الله عمرها). وكان والده يعمل بسكك حديد مصر، وبحكم عمله ينتقل من مكان لآخر. وفي عام 1963م تزوج من السيدة كارين أرنست بألمانيا ورُزق بثلاثة أولاد هم ماجدة، وميرفت وميشيل.
الأستاذ الدكتور الذياكون المهندس فخري صادق جرجس كانت لي معه علاقة طويلة وقوية جدًّا، سأوجز بعضًا من صفاته بالرغم أن الكلمات تعجز عن وصف هذا العملاق الذي كان خادمًا ومعلمًا فاضلاً.. كان إنسانًا رزينًا قويًّا صالحًا في الإدارة والتنظيم وفي عمل الخدمة.
وفي كل هذا لم ينسَ أبدًا حياته الروحية، فقد كان مواظبًا على حضور القداسات حافظًا الألحان والصلوات، متأثرًا بالقديس البابا كيرلس السادس؛ حيث عرفه حينما كان راهبًا يعيش في كنيسة مارمينا بزهراء مصر القديمة، فكان يذهب إليه ويخبز معه القربان ويصلي معه التسبحة ثم القداس، فتعلم منه محبة الكنيسة والرهبنة والتسبحة والصلاة اليومية، والجدير بالذِكر أنه هو الذي كتب اللوحة الموجودة في كنيسة مارمينا بزهراء مصر القديمة باللغة القبطية (مقر دير مارمينا حاليًا).
يعتبر الدكتور فخري بصمة وعلامة مميزة في تاريخ الكنيسة القبطية في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. كان خادمًا عرفته الكنيسة منذ فجر شبابه وخدم في مناطق متعددة، لعل في مقدمتها بني مزار والإسكندرية والقاهرة، بالإضافة إلى خدمته لفترة خارج مصر حينما كان في ألمانيا، فقد علم ودرس اللغة القبطية التي أحبها وأتقنها بلهجاتها في مناطق كثيرة.
وضع الرب سراجه على المنارة ليراه الكثيرون، ويتعلمون منه ويتتلمذون على يديه، فكم علم من خدام وخادمات وكهنة ورهبان وأساقفة، وهؤلاء لم ينسوا تعبه وتعليمه، فهُم يتذكرون فضله عليهم ويعتزون به معلمًا وخادمًا متواضعًا.. علمهم لغة الكنيسة، فقد وضع كل موهبته وعلمه ودراسته مشاركًا أسرته النابغة في اللغة القبطية.
فقد شكره المتنيح الأستاذ/ معوض داود عبد النور أحد علماء اللغة القبطية في القرن الماضي، وهو زوج أخته الكبرى المرحومة تفيدة في مقدمة قاموس اللغة القبطية للهجتين البحيرية والصعيدية (قبطي ـــ عربي) الطبعة الثالثة قائلاً: “فلا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أتقدم بالشكر لكل من عاون في إخراج هذا القاموس إلى النور ولا سيما المرحوم المهندس فوزي صادق جرجس، وأخيه الدكتور مهندس فخري صادق جرجس اللذين كانا لجمال خطهما وحسن تنسيقه اليد الطولى في إبراز القاموس في هذا الثوب”.
دكتور فخري صاحب عقيدة وضمير، فسيرته وفضائله ستظل حية في قلوبنا، فكم كان ذكيًّا، نشيطًا، مثقفًا، مدققًا، جادًّا، عاملاً، مثَّالاً، أمينًا، نبيلاً، وقورًا، قنوعًا، متواضعًا، شجاعًا، محبًّا، حازمًا، مضحيًا، ميناءً للسلام، مسامحًا، مخلصًا لوطنه، ابنًا للكنيسة، أمينًا للرب في كل تصرفاته، زوجًا مثاليًّا، وأبًا حنونًا.
ولقد ربطني بعائلته وأولاده رباط كبير، فكان يزور دير مارمينا العجائبي باستمرار وبخاصة في شهر كيهك من كل عام، وكنا نستمع له في تسبحة عشية، حيث كان يصلي التسبحة بصوته الرائع وبدقة النطق القبطي السليم وخصوصًا في قطع الرومي ثم قطع المعقب القبطي، فكنا نشعر كأننا في السماء، ويصلي معنا تسبحة الأحد الكيهكية للصباح.
وكان يستقبله مع أسرته مثلث الطوبى نيافة الأنبا مينا آفا مينا، وكما كانوا محبوبين للقديس البابا كيرلس السادس كذلك كانوا محبوبين لمجمع رهبان الدير.
– وفي أوائل هذا القرن كنا نصلي التسبحة الكيهكية أسبوعيًّا ونصلي القداس في مقر إيبارشية جنوب سيناء بالقاهرة حيث كنا نعيش السماء على الأرض.
– كان له دور فعال ومتميز في:
* نشر قاموس اللغة القبطية للهجتين البحيرية والصعيدية (قبطي ـــ عربي) للأستاذ معوض داود عبد النور الطبعة الثالثة 2013م.
* نشر العديد من المؤلفات.
* التدريس بمعهد الدراسات القبطية، حتى أصبح وكيلاً لقسم اللغة القبطية.
* التدريس بكنيسة جوارجيوس والأنبا أنطونيوس.
* كونترول معهد الدراسات القبطية.
* قام بفهرسة الميكروفيلم والميكروفيش في دير مارمينا العجائبي بمريوط في الثمانينات، وكذلك بالمركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، لسعة اطلاعه ومعرفته باللغة القبطية الصعيدية.
– فحياته شمعة مضيئة في التعليم وبخاصة اللغة القبطية التي بدأ تسجيل حلقات لقناة مي سات، وأذيعت، ستظل رائحته الزكية تفوح، فقد حفظ لغة الآباء في صدره فسيذكره التاريخ في صفحاته.
لقد رأيت محبته وغيرته على الخدمة الممتلئة بالحب والحزم والأمانة، وأيضًا إخلاصه لزوجته الفاضلة المتنيحة السيدة/ كارين أرنست فكان يحبها ويحترمها، وبعد نياحتها في 22 فبراير 2017م، آثر الصمت والصلاة مبتهلاً بقلبه إلى الله أن ينقله من هذا العالم المملوء تعبًا.
وبقدر ما تعب وبذل فسوف يعوضه الرب نصيبًا سمائيًّا عندما يسمع الصوت الممتلئ فرحًا الذي يقول له: “ادخل إلى فرح سيدك”، فقد تنيح في شيخوخة صالحة، ولكن روحه لم تشخ، الرب ينيح نفسه في أحضان آبائنا القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب.. وليعطِ أولاده وأسرته وكل محبيه عزاءً سمائيًّا.