يسعى الإنسان في رحلة الحياة أن يشق طريقًا للنجاح، فتكون إحدى وسائله في ذٰلك أن يُدرك ما وهبه الله من إمكانات ليستخدمها في تحقيق ما يأمُله. إلا أن البشر يقفون إما بعيدين عن ذواتهم وإما قريبين منها وعلى مسافات مختلفة؛ فنجد من يقترب إلى ذاته ويفهمها، وآخر يعُدها غريبةً عنه! وهٰكذا تتباين رؤى الأشخاص إزاء أنفسهم وإمكاناتهم، وتتعدد الشخصيات. وسأذكر ثلاثة أنواع: هٰؤلاء الذين لا يُدركون على الإطلاق ما لديهم من إمكانات ومواهب، وآخرون يعرِفون ما وُهبوا لٰكنهم يُعطونه أعظم من قدره، ونوعية ثالثة أصحابها يُدركون جيدًا مواهبهم مستخدمين إياها بالأسلوب الأمثل. والحقيقة أن الفارق بين هٰذه الثلاثة شاسع: يكمن في مدى صمود كل نوع ونجاحه في طريق الحياة.
النوع الأول: من وُهبت له الإمكانات لٰكنه لا يُدركها، وتجده قد اختار أن يقف في طريق الحياة مشاهدًا لوقائعها دون أن يشارك فيها، متعللاً بضعفه وعدم قدرته، وأن لا شيء لديه يمكّنه من السير نحو النجاح! آمال الحياة قد صارت لديه مجرد أحلام تتسرب من بين يديه، وهو عاجز عن الثقة أنه يستطيع اللحاق بها وتحويلها إلى حقيقة؛ إنه مشاهد للحياة دون أن يعيشها.
أمّا النوع الثاني: فيُدرك ما لديه من مواهب ولٰكنه يُخطئ في تقديرها إذ يراها أكبر من قدرها، فتجده دائمًا ما يسير في طريق الحياة من إحباط إلى آخر، معتقدًا أن الناس لا يقدرونه حق التقدير، فتأخذه المشاعر السلبية من متعة الحياة فيرتاد طريقه متألمًا متعثرًا في خُطواته؛ ومن الممكن أن يحقق بعض النجاحات لٰكنها دائمًا لا ترضيه إذ يراها لا تناسب تصوره لذاته؛ إنه متألم في الحياة لا يتمكن من الاستمتاع بها.
أمّا ذٰلك الذي عرَف ما مُلِّك من مواهب وقدرات، وتمكن من استخدامها بأسلوب مناسب، فهو الذي أدرك معنى الحياة، وسر النجاح فيها، واستطاع أن يحياها ببساطة وسعادة؛ إنه المشارك في طريق الحياة والمؤثّر فيها.
ومعرفة الإنسان لمواهبه ليست بالأمر السهل الذي يعتمد على مجرد الأفكار أو الأحلام، إنما هو يرتبط بالعمل والتدريب. فالإنسان يكتشف مواهبه من خلال العمل؛ وأقصد بالعمل: الدراسات والأنشطة التي يمكنه القيام بها، ثم العمل الذي يمارسه. إن الإنسان بالعمل الدؤوب الأمين يكتشف ويتعلم كل يوم ما هو جديد عن نفسه، مع ما يكتسبه من خبرات تنمي تلك المواهب وتعمقها. أيضًا التدريب يكشف الآفاق التي يمكن الإنسان الوصول إليها، ويسمح له بتحقيق إنجازات تِلو إنجازات؛ يقولون: “قطرة المطر تحفِر في الصخر: لا بالعنف، ولٰكن بالتكرار.”.
أمر آخر ينبغي الإشارة إليه: التجارِب التي تمر بالإنسان؛ فالإنسان لا يُدرك حقيقة ما يحمل في أعماقه من صفات إلا حينما يتعرض لتجارِب الحياة، ويجد ما يؤيد هٰذه الصفات أو المواهب ويثبّتها، أو يلاقي ما ينفيها. يقول د. “مصطفى محمود”: “إنك لن تُدرك مدى خوفك، ولا مدى شجاعتك، إلا إذا قابلتَ خطرًا حقيقيًا، ولن تُدرك مدى خيرك ومدى شرك، إلا إذا لاقيتَ إغراءً حقيقيًّا.”.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ