تحدثنا فى المقالة السابقة عن “قوة التسامح” التى لا يعرِفها فى هٰذه الحياة إلا الأقوياء، واليوم أتكلم عن “قوة الاحتمال” فى حياتنا، إن التسامح والاحتمال قوتان تشددان إحداهما الأخرى، فلا يمكنك أن تلقى فى طريق الحياة إنسانًا يسامح الآخرين وهو يفتقد القدرة على احتمال مواقف الحياة! وهٰكذا: كلما اشتد احتمال الشخص، ازدادت قدرته على التسامح.
كثيرًا ما نتعجب فى الحياة عندما نرى شخصًا يحتمل كثيرًا من المصاعب التى تهُش لها العقول، فى حين نجد آخر يهوِى مع أصغر المشكلات أو العقبات. وقوة الاحتمال لدى الإنسان لا تكتسب بين يوم وليلة، بل هى رحلة عبر الحياة يتقدم فيها يومًا بعد يوم، يكتسب خلالها النضج والصفات التى تؤازره فى الاحتمال.
إن سر الاحتمال يكمن فى أعماق الإنسان: فهو يحتاج إلى إيمان عميق يتخلل فكره ومشاعره، إيمان قوى يضرِب بجُذوره فى العمق فلا يتزعزع مع رياح الحياة العاتية، إيمان بوجود الله خالق الكون العظيم وضابط جميع أموره وبأن إرادته هى لخير البشر. فى ظل ذٰلك الإيمان العميق، يستطيع الإنسان أن يشعر بالأمن والسلام وهو متكل ـ لا متواكل ـ على الله فى جميع أمور حياته؛ ولا يستطيع إدراك هٰذا الأمر إلا من عرَف الله وأراد اتباع وصاياه بكل قلبه ونفسه؛ مقدِّمًا كل محبة وعطف وود وعدل وأمانة للجميع.
وقوة الاحتمال تزداد بتدريب الإنسان لذاته. وبنظرة سريعة فى الحياة، نجد أن الرياضى يتدرب كل يوم كى يصل إلى المستوى اللائق له لتحقيق البطولات، ويستمر هٰكذا فى الانتقال من تدريبات بسيطة إلى أكثرها تعقيدًا وشدة. وعلى المستوى النفسيّ، يبدأ الإنسان فى التدرب على تحمل ضغوط الحياة البسيطة حين يتحمل وقائع أو يقوم بمواقف لا يرغبها كثيرًا كالاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه؛ حتى يصل إلى درجة عالية من تحمل مشاق الحياة وضُغوطها الشاقة.
وعلى المستوى الروحى، نجد أن من يقدم صومًا فهو يدرب ذاته على احتمال ألم الجوع والعطش فترة زمنية، ويدربها أيضًا على الامتناع عن أنواع من الطعام يحبها، وهٰكذا يصل إلى التنازل عن كل ما يحبه من أجل الله. أيضًا من يدرب نفسه على الصلاة فهو يتدرب على احتمال ألم الوقوف أو السجود فترة زمنية، والانفصال عن عمل أشياء يحبها فى الحياة. وتزداد التدريبات عمقًا فيدرب الإنسان نفسه على عدم رد الإساءة بالإساءة إلى أن يصل إلى محبة العدو.
ومن أهم عوامل الزيادة فى قوة الاحتمال عند الإنسان هو تواضعه، يقول الشاعر النمساوى “فرانز غريلبارتسر”: “تزداد قوة الاحتمال بالتواضع، فلا قوة للقوس دون انحنائه”. وثِقْ فى النهاية أن الله لن يسمح بتعرضك لصعاب أشد من احتمالك فى فترة ما، إنما هو يسمح من وقت لآخر بصعاب كى تزداد قوة وصلابة فى معترك الحياة، وفى عبورك الأزمات، وذٰلك بما تحمله من ثقة ويقين فيه ـ تبارك اسمه ـ فتنال بركات أعظم فى الحياة.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى