إن كانت أحرفى وكلماتى قد حاولتا الاقتراب من حياة شخصية “البابا كيرلس السادس ” فى مقالتى السابقة ، فإنها تحاول الآن أن تقترب من شخصية أخرى ما تزال تحيا فى أعماق المِصريِّين وذاكرة التاريخ لا المِصرى فحسب بل العالميّ: إنه “بابا العرب” الذى ترك أثرًا واضحًا وبصمة لا تتكرر فى حياة جميع من التقَوه، مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث” البطريرك السابع عشَر بعد المئة فى بطاركة الإسكندرية، الذى نحتفل بعيد نياحته غدًا.
كانت حياة “البابا شنوده الثالث” عميقة ثرية بعمق الفكر الذى جعل منه قائدًا حكيمًا، وباتقاد المشاعر التى لمسناها فياضةً فى أبوته وحنوه نحو كل إنسان؛ حياة لم تتوقف عن العطاء حتى لحظاتها الأخيرة، فأسرعت الأقلام فى العالم بأسره تتحدث عن شخصية صاحبها المِصرية الوطنية التى كانت ـ ولا تزال ـ محل تقدير عظيم، فقيل فيها: “«البابا شنوده الثالث» مثال لرجل الدين الذى يؤمن بالتسامح والتعايش”، و”لقد كان قداسته رمزًا دينيًّا كبيرًا، وقامة مِصرية عظيمة حملت هموم المِصريِّين والعرب جميعًا؛ وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوَحدة الوطنية، وعن القضايا العربية…”؛ ولقوة وهج هٰذه الشخصية التى أثرت وأثّرت فى العالم كُتب: “كان شخصية إنسانية نادرة لا يجود الزمان بمثلها إلا قليلاً!”. وقد عبّرت القيادات العالمية عن محبتها لشخص قداسته، فقالوا فى كلمات تعزياتهم: “رحيل «البابا شنوده» خَسارة للوطن العربيّ”! وأيضًا: “«البابا شنوده» كان رمزًا مثاليًّا للتسامح الدينى والتفاهم بين الجماعات، وتميز بالحنوّ والإنسانية تجاه مجتمعه، والآخرين من الأديان الأخرى، كما كان شخصية تعلق بها الصغار والكبار …”.
لم تكُن تلك المحبة العميقة سوى انعكاس لما زرعه قداسته من حب وترفق وخير وعمق فكر فى مراحل حياته كافة؛ فوَحدته جعلت الكتاب صديقًا له فأثمرت الصداقة عن فكر عميق متأمل وثقافة موسوعية جعَلا منه شخصية جذابة لكل من اقترب منها.
أمّا عن آلام طفولته بسبب فقدان والدته بعد أيام قليلة من ولادته، فلم تجعله سوى قلب نابض بالعطف والحنوّ على الجميع فلا ترى إلا أمواج مشاعره الرقيقة تجتاح حياتهم لترويها بأبوته! كنت تشعر وأنت برفقته فى رحلة الحياة أنه النسيم العليل الذى يساعدك على تخطى ضيق الحياة ومشكلاتها! له ابتسامة رقيقة تفرّح القلب والنفس، ماسحةً الأحزان فور تبسُّمه! قال قداسته ذات يوم: “حياتك بكل طاقتها وزنة (موهبة) سلمها لك الله؛ لذٰلك يلزمك أن تنمى شخصيتك بصفة عامة لتتحول إلى شخصية قوية: سواء فى العقل، أو الضمير، أو الإرادة، أو المعرفة، أو الحكمة والسلوك، أو الحكم على الأمور، أو النفسية السوية.”. فكان أنه نمّى ما وهبه له الله من ملكات عظيمة مثل: الذكاء، وقوة الذاكرة، وموهبتى الكتابة والشعر؛ مستخدمًا إياها بحكمة شديدة من أجل خير “مِصر” وشعبها وأبنائه.
عاش قداسته طوال حياته مهتمًا بالجميع، خادمًا لهم، وكان دائم القول: “أمامنا طريقان: إما أن نتعب ويستريح الناس، وإما أن نستريح نحن ويتعب الناس.”؛ وكان اختياره دائمًا أن يتعب هو من أجل إراحة الآخرين؛ وهٰكذا تكون حياة العظماء.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسيّ