جال بنظره بعيدًا وكأنه يتطلع إلى الأفْق، ثم انتبه قائلاٌ : ألخير بين البشر؟! الترفق والإنسانية ؟! نعم، نحتاج بشدة إلى استعادة الثقة بأن الإنسانية ما تزال كائنة وتحيا في داخلنا – ودعني أقول – وبالأخص في داخل ضمائرنا التي تمضي بنا في رحلة الحياة. لكنني أتساءل : لماذا تختلف درجات الإنسانية من شخص إلى آخر؟!
أجبت: أظن، يا صديقي، أن الإنسانية ترتبط ارتباطا وثيقًا بمدى المحبة التي يحملها الإنسان في أعماقه، المحبة المستمدة من الله التي تتسم بالنقاء والطهر، والتي تُعلي من قدر أيّ بشر مؤمنة أنه تاج الخليقة التي صنعها الله ، وموقنة أن السعادة الحقة ترتبط بسعادة العائلة البشرية جمعاء ؛ فالعالم في فُلك كبير يتجه في رحلة الحياة نحو الأبدية حيث لكل إنسان وجوده وعمله ورسالته التي هي جزء من كل ، ويمكن الجميع أن يحيَوا في سعادة وسلام وأمان بالتعاون والعمل المشترك . أمّا الصراعات، فلن تصل بنا إلا إلى مزيد من التعاسة والفشل. وكما ذكرت سابقًا: إن الشر يحاول أن يبسُط رداءً من الوهم على العالم لإقناع كل من يحيا فيه بمبادئ خادعة تحاول أن تقود نحو تدمير كل إنسان الآخر إذ يعُد وجوده سبب عدم سعادته!! أو يظن أنه سيكون في وضع أفضل حال رحيله! أمّا جوهر الأمر، فإنه يختلف تمامًا عن هذه النظرة القاصرة التي تتملك من يعتقدون بصحتها.
قال: ربما يكونون على حق؟! أجبته : لا أعتقد ! أتذكر قصة ذلك العابد الذي كان يعيش قريبًا منه بعض الإخوة، وكان سريع الغضب معتقدًا أن تصرفات البشر من حوله هي سبب غضبه وثورته ، وأنه إن عاش وحيدًا بعيدًا عن الآخرين فسيصبح أكثر هدوءًا وبشاشة وسلامًا . وذات يوم ، قرر الرحيل بعيدًا عن كل إنسان، ولم يحمل معه سوى إناء يضع فيه الماء ليروي ظمأه – “قُلة” . وبعد تَرحال طويل، وجد غرفة نائية لا يقطُنها أحد مناسبة لسكناه وحيدًا. بدأ الرجل في إعداد الغرفة ولتبدأ رحلة حياته مرحلة جديدة – حسبما كان يظن ، ووضع “القُلة” على باب الغرفة. وبعد قليل، هبت ريح تسببت في سقوط “القلة” حتى أحدث صوتًا أزعج الرجل فأسرع يرفعها ووضعها مكانها. ولم يلبث أن هبت الرياح لتسقط “القلة” ثانية وتحدث صوتًا عاليًا فقام يضعها مكانها مرة ثانية. ثم سَرعان ما سقطت مرة ثالثة! وهنا أسرع الرجل غاضبًا موبخًا “القُلة”: “أنتِ أيضًا سبب إزعاجي وإثارة غضبي”! وأمسك بـ”القلة” بإحكام وألقاها محطمًا إياها ! وعند تلك اللحظة انتبه الرجل ليُدرك أن الغضب الذي يعانيه لا بسبب الآخرين بل لأعماقه المضطربة كهدير بحر هائج، تفتقر إلى تعلم الهدوء والسكينة.
دعني أتوقف قليلاً، وأتساءل: كم من المرات اعتقد فيها أحدهم أن أموره تؤول إلى نجاح أكبر أو سعادة أكثر عندما يبتعد عن طريقه إنسان ما، فيحاول بكل الوسائل إقصاءه، وينجح، ثم يكتشف أنه كان مخطئًا أشد الخطإِ وأن سعادته لم تتحقق بعد؟!!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ