ترأس قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، يوم الخميس 16 أبريل 2020م، قداس خميس العهد، وذلك بدير الانبا بيشوي بوادي النطرون بلا حضور شعبي، إذ يشارك قداسة البابا في الصلاة عدد من رهبان الدير والآباء الأساقفة.
عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس خميس العهد من كنيسة التجلي ( لوجوس ) بالمقر البابوي بدير القديس الأنبا بيشوي العامر بوادي النطرون
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين تحل علينا رحمته ونعمته من الآن وإلى الأبد آمين.
أهنئكم أيها الأحباء بعيد يوم خميس العهد ذلك اليوم المميز في تاريخ كنيستنا وفي عمل السيد المسيح فهو اليوم الذي يسبق الصليب المجيد، هذا اليوم هو عيد سيدي مفرح نحتفل به وسط الآلام الخلاصية وهذا العيد يتميز بأعمال كثيرة.
السيد المسيح في هذا اليوم صنع خمسة أعمال:
١- تمم الشريعة من خلال الفصح وأكل الفصح مع تلاميذه، ومعنى كلمة فصح “عبور” أو كلمة بصخة وأكل الفصح وكان الفصح الأخير
٢- قدم لنا فضيلة الإتضاع من خلال أنه قام وغسل أرجل تلاميذه وهو المعلم والسيد
٣- السيد المسيح أسس الكنيسة من خلال سر الإفخارستيا وهذا السر العظيم التي تقوم على أساسه الكنيسة المقدسة كما يقول الآباء “المسيحيون يقيمون سر الإفخارستيا، وسر الإفخارستيا يقيم المسيحيين” لذلك تحرص الكنيسة على تقديم هذا السر في كل وقت
٤- تحدث السيد المسيح حديثًا طويلًا “حديث العلية” نقرأه في إنجيل يوحنا في الإصحاح من 13- 16 وهو حديث طويل وتذكر معظم هذه الأناجيل في ليلة الجمعة الكبيرة
٥- الصلاة الوداعية (الشفاعية)، وهي الصلاة العميقة وتسمى “صلاة الصلوات” وهي مذكورة في إنجيل يوحنا إصحاح 17 وينفرد بها القديس يوحنا الحبيب التلميذ الذي كان المسيح يحبه وسجلها لنا في 26 آيه ويعتبروا هذا الصلاة قدس الكتاب المقدس أو قدس العهد الجديد وكل آيه فيها لها معاني عميقة للغاية وترسم حياة الكنيسة
هذه الأعمال الخمسة قدمها السيد المسيح في هذا اليوم، والكنيسة أيضًا تصنع خمسة أعمال في هذا اليوم
١- نرفع بخور باكر على غير الأيام السابقة وأيضًا يوم الجمعة العظيمة لا نرفع فيهم بخور باكر ولا عشية
٢- الكنيسة تعلمنا بطريقة الطقس الحي ما نسميه بدورة “تبكيت يهوذا” ونرى كيف أخطأ يهوذا وسلم السيد المسيح بحفنة من المال برغم أنه كان تلميذ للسيد المسيح ولكن وقع في هذه الخيانة وأنهى حياته بيده وهي دورة عكسية بها توبيخ واضح جدًا ليهوذا حتى لا يوجد يهوذا آخر
٣- تقوم الكنيسة بعمل طقس اللقان وغسل الأرجل وكما ذكرت هذا الطقس يتم 3 مرات بالسنة: في عيد الغطاس وخميس العهد وفي عيد الأباء الرسل
٤- قداس اليوم مختلف عن كل القداسات وبه أجزاء كثيرة لا تقال فهو القداس التأسيسي لسر الإفخارستيا هو الصورة الأولى للقداس أو التسليم الأول كما سلمه السيد المسيح لتلاميذه لا يوجد كاثوليكون وإبركسيس وصلاة الصلح ومجمع قديسين والترحيم فهو قداس مختلف
٥- في عشية هذا اليوم تصلي الكنيسة ساعات البصخة ولكن يزيد عليها أن الأناجيل تقرأ ٤ فصول في كل ساعة ونسميها “فصول الباراقليط” أو الحديث الطويل الذي تحدث به يسوع المسيح مع تلاميذه.
هذه الصورة أيها الأحباء صورة خميس العهد ونتوقف عند أهم فعلين نتعلمهم في هذا اليوم:
الدرس الأول: الدرس الأخير والعشاء الأخير، الدرس الأخير وتأسيس سر الإفخارستيا (التناول) عندما نلاحظ حياة ربنا يسوع المسيح نجدها مزيج من أمرين في كل أفعاله ومعجزاته وأمثاله ومقابلاته وتعاليمه، مزيج من الاتضاع والحب وهما القدمين الذي يمشي عليهم كل خادم للمسيح منذ أيام المسيح وحتى أيامنا وحتى نهاية الدهر الاتضاع والحب وهما مرتبطين ببعض، السيد المسيح في اتضاعه يصل إلى قمة الحب وهو أيضًا في محبته يصل إلى قمة الاتضاع وهما متداخلين لا نستطيع أن نفصلهم، في غسل الأرجل قمة التعليم الذي قدمه المسيح بالقدوة، في غسل الأرجل حادثة فريدة، دائمًا المعلم يجلس في مكان أعلى والتلاميذ في مكان أقل وكل المعلمين كانوا يصنعوا هكذا أما السيد المسيح فقدم نموذج جديد في هذا التعليم فأخذ ماء وجلس على الأرض وغسل أرجل تلاميذه لم نسمع بمثل هذا في عهد قديم ولا في عهد جديد ولا في تاريخ الشعوب والبشر أن المعلم يصنع هذا ولذلك اعترض بطرس الرسول ولكن السيد المسيح أراد أن يصنع هذا العمل العظيم علاج لخطأ وقع فيه التلاميذ، التلاميذ سقطوا في خطية من هو الأعظم فأراد السيد المسيح أن يعلم درسًا قاطعًا وغسل أرجل تلاميذه وقد يكون من ضمنهم يهوذا ورغم اعتراض بطرس أحيانًا الأفعال العظيمة لا يستطيع أن يتصورها العقل وأحيانًا قمة الاتضاع لا يستطيع الإنسان أن يفسرها جيدًا، ورد عليه السيد المسيح “إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ” وهنا بطرس يعيد التفكير وكأن المسيح يقول له أريد أن أغسل عنك عنادك وكبرياءك، وغسل الأرجل في أحد معانيه يعني التوبة، نحن نمارس سر المعمودية ونولد ميلادًا جديدًا من الماء والروح ويصير الإنسان له حياة جديدة ولكن عبر مشوار حياتنا يتعرض الإنسان إلى خطايا كثيرة نعبر عنها بغسل الأرجل بسر التوبة والاعتراف ونتذكر يوم السبت في الوليمة التي صنعها أخوة لعازر مريم سكبت زجاجة طيب ناردين على قدمي السيد المسيح واليوم السيد المسيح يغسل أقدام الرسل بالماء ليعلمهم درس في الاتضاع وأن الإنسان يحتاج على الدوام إلى توبة نقية ويعيش بأرجل نقية (المعنى الرمزي للقدم هى تعبير عن سلوكيات الإنسان) والذي اعتمد طاهر لا يحتاج إلا لغسل قدميه يحتاج إلى التوبة والتوبة لا تكون إلا من خلال اتضاع الإنسان فالنفس المتكبرة لا تعرف مجال للتوبة، كان هذا الدرس درس في التواضع والدرس الأخير الذي قدمه السيد المسيح قبل الصليب وأراده أن يظل عالق بأذهان تلاميذه وعندما نقرأ في إنجيل يوحنا نجد السيد المسيح يتكلم عن المحبة وعندما تظهر المحبة فيكم تكونوا تلاميذ لي وهذا الكلام الذي قدمه السيد المسيح من 20 قرن من الزمان هو كلام حي لحياتنا اليوم ولسلوكنا وخدمتنا ولكنيستنا، أن يتعلم الإنسان أن يغسل أقدام الآخرين ويتضع وغسل الأقدام شيء مهم جدًا في حياتنا ووسط هذا العالم الصاخب ينسى الإنسان هذه الفضيلة (الاتضاع) ويقع في خطايا منصب أو سلطة أو لقب وأن يشعر أنه أفضل من الآخرين اليوم في خميس العهد دعوة للإنسان أن يتضع ويعيش بالوداعة “طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ.” كما قال السيد المسح “وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ” ونتخرج من الكليات ولكن لا يوجد كلية تخرج المتضعين هو جهاد الإنسان مع نفسه من أجل هذا الاتضاع وهذه صورة مهمة جدًا وكما قال القديس يوحنا المعمدان عن نفسه “الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.” فنال تطويبًا من السيد المسيح أنه نال العماد على يده ويوحنا المعمدان علمنا درسًا “يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ.” وهذا تعريف قوى لصورة اتضاع الإنسان.
الدرس الثاني: الذي علمه لنا السيد المسيح في هذا اليوم هو تأسيس سر الإفخارستيا الذي صار بمثابة عهد جديد بين الإنسان وبين الله، أيام نوح كان قوس قزح عهد، وأيام إبراهيم كان الختان عهد، وأيام موسي كان حادثة العبور والفصح عهد، أما في العهد الجديد فكان العهد الذي قدمه السيد المسيح قدم جسده ودمه لأجل الإنسان وكسر الجسد وسفك الدم “مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ” عندما تتناول وتأخذ الجسد والدم تثبت في المسيح والمسيح يثبت فيك وهذا السر يقوم على أساس حبات القمح والعنب، القمح الذي يصنع منه الخبز والقمح يصير دقيق ويوضع في النار حتى يصبح خبزًا وعصير الكرم تعصر الحبات وتصير عصير الكرم، والمعاني في مكونات سر الإفخارستيا باعتبار إنه أقدم غذاء عرفه الإنسان واعتبار الوحدانية عنقود واحد به حبات كثيرة وفيها تعبير عن الاتحاد اتحاد حبات القمح أو العنب ثم إعدادها يحتاج إلى امتحان ونار وعصر وهذا ما اجتازه السيد المسيح “قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي”
لماذا نتناول؟ كما يقول الأب الكاهن “يعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه” يعطى عنا خلاصًا تطهير من الخطية، وغفرانًا للخطايا يمنح الإنسان السلام، وحياة أبدية وهي احساس النصرة والفرح في حياة الإنسان ونقسم الثلاث مفردات على الزمن في الماضي المسيح صلب من أجلك، وفي الحاضر يغفر لك خطاياك، ومستقبلًا يعطيك الحياة الأبدية التي هي مزيج من الفرح والسلام والنصرة الداخلي في حياة الإنسان وهذا ما يشعر به الإنسان بعد التناول ” قلبنا قد امتلأ فرحًا ولساننا تهليلًا”، وبهذه الصورة يكون درس العهد الجديد الذي قدمه لنا السيد المسيح هو مزيج من الحب والاتضاع، وخميس العهد هو العهد الجديد الذي يربط بين الإنسان وبين الله وإن كانت ظروفنا في هذه السنة بسبب انتشار الوباء والأسباب الصحية تمنعنا من التجمع في الكنائس ولكن نحن لدينا ثقه في الله أنه يستطيع أن ينهي هذه الأمور ويتمم شفاء المصابين ويذكر الذين رحلوا ونحن اليوم في بيوتنا التي صارت كنائس ونصلي فيها ثق أن شعورك الداخلي وإيمانك ونيتك وصلواتك المرفوعة يقبلها الله إليك واليوم فرصة وأنت تصلي تقول له ” أنا هاخد معك يا رب عهد جديد اتضاعي ومحبتي لكل أحد” وأنت في البيت وفي الكنيسة وفي المجتمع العهد الجديد يتلخص في الاتضاع والحب، الاتضاع في غسل الأرجل والحب في بذل السيد المسيح نفسه من أجلنا على خشبة الصليب ليقدم لنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه، لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.