تحدثنا في المقالة السابقة عن فن التعامل بين الناس، وذكرنا بعض القواعد في هٰذا؛ ومنها: أننا مختلفون “فأنا لستُ أنت “إياك””. وهٰذا الاختلاف هو للإثراء، كما أنه أمر إيجابيّ نتكامل فيه معـًا. فاللوحة التي تتكون من لون واحد فقط لها جمالها الذي يتوقف على براعة الشخص الذي رسمها وقدرته على التعبير، أما تلك التي تتعدد فيها الألوان وتتنوع فهي تعطي جمالـًا وسحرًا مع كل إضافة من لون يلائم اللوحة لتصير تحفة فنية تخطف أبصار الجميع!
وفي فن معاملة الآخرين، علينا أن ندرك أنه ليس من الضروريّ أن يقتنع الجميع بالآراء نفسها، أو أن تكون لهم الرؤية نفسها للأمور أو المشكلات أو وسائل علاجها. فما يُنجح العمل هو تعدد زوايا الإعداد له، وتنوع المواهب والطاقات، وهٰذا بدوره يحتاج إلى شخصيات متميزة في الإمكانات بعضها عن بعض؛ حتى نصل إلى أفضل المقترحات والتصورات والحلول. يقولون: “حينما يكون الناس بفكر واحد، أو سلوك واحد، فهٰذا ابتعاد عن إمكانية الإبداع والتطور.”. لذٰلك، ينمو بناء الإنسان لحياته أو أسرته أو مجتمعه، ويتزايد ويحقق نجاحًا باهرًا وتميزًا حقيقيـًّا، حين نتعلم أن نعزف معـًا مقطوعة العمل والحياة، وكل منا يحمل أداته المختلفة عن أداة الآخر، فنقدم معًا أجمل المقطوعات الموسيقية.
في إحدى القِصص الحقيقية الطريفة، ذُكر أن أحد الأسئلة لامتحان مادة الفيزياء في جامعة “كوبنهاجن” بالدِنمارك جاء نصه كالآتي: كيف تحدد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام الباروميتر ـ جهاز قياس الضغط الجويّ؟ وكانت الإجابة الصحيحة المطلوب تدوينها في الإجابة عن هٰذا السؤال هي: بقياس الفرق بين الضغط الجويّ على سطح الأرض وبينه على سطح ناطحة السحاب. إلا أن أحد الطلاب في قسم الفيزياء أجاب بطريقة استفزت أستاذ الفيزياء، مما جعلته يقرر رسوب صاحب هٰذه الإجابة، دون استكمال باقي إجاباته عن أسئلة الامتحان. وكانت إجابته: اربِط الباروميتر بحبل طويل، ودلِّ الخيط من أعلى ناطحة السحاب حتى يمَس الباروميتر الأرض، ثم قِس طول الخيط. سببت هٰذه الإجابة غضبـًا عارمـًا لأستاذ المادة لأن الطالب قاس ارتفاع الناطحة بأسلوب بدائيّ يبتعد عن المعرفة العلمية فلا عَلاقة له بالباروميتر أو بمادة الفيزياء.
وعند رسوب الطالب، قدم تظلمـًا لأن إجاباته في مادة الفيزياء صحيحة. وبحسب قواعد الجامعة عين خبير لحسم هٰذا الخلاف. وجاء تقرير الخبير: إن إجابة الطالب صحيحة، لٰكنها لا تعكس معرفته بمادة الفيزياء. وتقرر إعطاء الطالب فرصة ثانية يقدم فيها معرفته العلمية بمادة الفيزياء. وفي الاختبار التالي، الذي كان شفهيـًّا، طُرح عليه السؤال نفسه. ففكر الطالب لبعض الوقت، وقال: لديّ إجابات كثيرة لقياس ارتفاع الناطحة، ولا أستطيع تحديد أفضلها. قال المحكّم: لتذكر كل الإجابات التي تعرِفها.
بدأ الطالب في سرد ما لديه من إجابات، فقال: الطريقة الأولى أنه يمكن إلقاء الباروميتر من أعلى ناطحة السحاب على الأرض، ويقاس الزمن الذي يستغرقه الباروميتر حتى يصل إليها؛ وهٰكذا من خلال استخدام قانون الجاذبية الأرضية يمكننا حساب ارتفاع ناطحة السحاب. الطريقة الثانية: إذا كانت الشمس مشرقة، فيمكن قياس طول ظل الباروميتر، وطول ظل ناطحة السحاب؛ ومن قانون التناسب بين الطولين وبين الظلين نصل إلى ارتفاع الناطحة. طريقة ثالثة وسريعة تريح عقولنا: هي سؤال حارس الناطحة عن ارتفاح الناطحة في مقابل إهداء الباروميتر له! والطريقة الرابعة التي هي أكثر تعقيدًا: نحسب ارتفاع الناطحة بواسطة الفرق بين الضغط الجويّ على سطح الأرض وبينه أعلى ناطحة السحاب باستخدام الباروميتر!! وقد كانت هٰذه الإجابة هي التي ينتظرها المحكّم، التي تدل على فَهم الطالب لمادة الفيزياء، في حين كان الطالب يرى أنها أسوأ الإجابات وأصعبها وأعقدها!! لقد كان هٰذا الطالب هو “نيلز بور” عالم الفيزياء الذي كانت له مُسهامات بارزة في عمل نماذج لفَهم البنية الذرية، إضافة إلى ميكانيكا الكم. وكان هو رئيسـًا للجنة الطاقة الذرية الدِنماركية، ورئيس “معهد كوبنهاجن للعلوم الطبيعية النظرية”، وحاصلـًا على الدكتوراه في الفيزياء عام 1911م. ليس هٰذا فحسْب، بل إنه الدِنماركيّ الوحيد الذي حاز “جائزة نوبل” في الفيزياء.
إن هٰذه القصة التي حدثت بالفعل، تشير إلى وجود عدد لا نهائيّ من الأفكار والرؤى التي يملِكها البشر. وعلينا أن نُدرِك أنه لا إنسان يمكنه رؤية الأمور من جميع زواياها. ففي الحياة ـ لا في الامتحانات العلمية فقط ـ تتعدد تصوراتنا للأمور، وتتغير وِجهات النظر؛ ولذٰلك يجب أن نتدرب في الحياة على المرونة لنتمكن من تقبل أفكار الآخرين وآرائهم. وأعتقد أن سر نجاح “نيلز بول” يكمن في تنوع زوايا رؤيته للأمور ومرونتها، ما أعطاه الفرصة للمحاولة والفشل حتى وصل إلى التميز والنجاح. لذا، يحتاج كل منا إلى الآخر لكي نحقق إنجازًا رائعـًا.
إن الحياة تحتاج إلى المرونة والتعددية، وأن نُدرِك أنه لا يمكننا إلغاء دَور شخص، بل أن نعمل جميعـًا، بشرط أن يكون العمل بتناغم ومحبة حقيقية؛ لتحقيق هدف واحد هو النمو والرخاء الذي سيتمتع به الجميع، إذ شارك كل إنسان بجزء منه.
ومع المؤتمر الاقتصاديّ الذي عُقد منتصف شهر مارس الماضي في “شرم الشيخ”، ومع ما حققه من نجاحات عظيمة في خَُطوة نحو مستقبل أفضل لمِصر، يتضح لنا أهمية الدور الذي تتبوأه مِصر. فقد أثبت هٰذا المؤتمر مكانة مِصر المتفردة في الشرق الأوسط، وبين دول العالم، حتى إنه اجتذب قرابة 80 دولة للاستثمار فيها، وهو ما يؤكد تميز مِصر الدائم. يتبقى لنا أن نُثبِّت أعيننا صوب المستقبل، والنجاحات التي نحلُم بتحقيقها لتصبح واقعـًا ملموسـًا يتمتع به أبناؤنا، وأن نُدرِك أننا كمِصريِّين نحب مِصر، وأننا كأبناء لهٰذا البلد العظيم يقع علينا دور هام في ازدهارها وبنائها ورفعتها؛ فإن مِصر لن تُبنى إلا بأيدي أبنائها الذين يحبون ترابها، ويقدمون أرواحهم فداءً لها. إن حياة المِصريين وكرامتهم نابعتان من حياة مِصر وعزتها وكرامتها. حقـًّا، ما أجمل أن نعمل سويـًّا في تلك البلد التي بارك الله شعبها حين قال عنها: “مباركٌ شعبي مِصر.”!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ