يُحتفل غدًا بذكرى الأربعين لشهداء “الكنيسة البطرسية”؛ وقد يتعجب بعضٌ من استخدامي لكلمة “احتفال”، إذ من المعروف أنها تطلق على الأحداث السارة التي يريد البشر تخليدها على صفحات الذكريات أثناء حياتهم؛ لٰكن كل ما يرتبط بالشهداء هو احتفال بأشخاص نالوا كرامة عظيمة وانتقلوا إلى حياة أعظم من تلك التي عاشوها على الأرض؛ والذكريات التي تربطنا بهم هي علامات فارقة في حياة البشرية، إذ هي ترسُِم نماذج لبشر عاشوا كالملائكة على الأرض فاستحقوا أن ينالوا تكريم السماء لهم.
و”الشهيد” هو الشخص الذي يشهد بأقواله في أمر ما، أو يشهد بأعماله وبسلوكه عن إيمانه، ثم أصبحت الكلمة تُطلق على من يقدم حياته من أجل الواجب أو الخير، أو من أجل الله. وتطلق كلمة “شهيد” أو “شهيدة” في المَسيحية على ذٰلك الذي احتمل الشدائد من أجل الإيمان سواء قُتل أو لم يُقتل؛ وأخيرًا أصبحت تُطلق على الذي قبِِل أن يقدِّم حياته من أجل إيمانه.
ويحمل التاريخ المِصريّ صفحات كثيرة كُتبت بدماء الشهداء المِصريِّين الذين أذهلوا العالم بشجاعتهم الفائقة صغارًا أو كبارًا؛ فقد كان العالم يقف مشدوهًا أمام إقبالهم على الموت بهُدوء واحتمال وصبر، دون خوف أو ارتعاب، بل بسعادة غامرة وقلب يصفح عمن قتله: يقول أحد الآباء: “… كان القديس استفانوس [أول الشهداء] يُرجم، وإذ كانوا يقذفونه بالحجارة، صلى لأجلهم؛ أريد أن تكونوا مثله.”. لقد كان الموت لديهم هو انطلاق نحو السماء التي منها يستمدون شجاعتهم؛ يقول الشهيد “كِبريانوس” في إحدى رسائله: “لقد كان المعذِّبون أعظم شجاعة من الذين يعذبونهم. إذ غلبت الأعضاء المضروبة والممزقة الآلات التي ضربتها ومزقتها!! لقد كانت الأسواط تُكرر الجلدات بكل ما فيها في قوتها، لٰكنها لم تقدر أن تهزم الإيمان غير المنظور!”.
واليوم نتحدث عن شهيدة مِصرية ذاع صيتها في العالم بأسره هي الشهيدة “دميانه” التي تلقب “أميرة الشهيدات”، وقد احتُفل بيوم استشهادها يوم ٢١/١ الموافق الثالث عشَر من طوبه.
“دميانه”
وُلدت مع أواخر القرن الثالث الميلاديّ من عائلة مَسيحية تقية ثرية حاكمة؛ فقد كان والدها “مَرقس” هو والي “البرلس” و”الزعفران” و”وادي السيسبان”. وقد فرِح والداها كثيرًا بمولدها وأقاما المآدب للفقراء. ولم يمضِ عامها الأول حتى تُوفيت والدتها، لتعيش مع والدها الذي حرص على الاهتمام بها ورعايتها، فصارت مثالًا في عصرها للجمال والغنى والفضيلة مع أنها كانت لم تتخطَّ الخامسة عشْرة من عمرها بعد! حتى إن أحد الأمراء تقدم لطلب الزواج بها؛ لٰكنها رفضت، فأرجأ والدها أمر زواجها إلى حين. وفي تلك الأثناء، ارتبطت “دميانه” بالكنيسة وبقراءة “الكتاب المقدس” مع أصوام وصلوات كثيرة.
أولى الراهبات
في سن الثامنة عشْرة كشفت “دميانه” لوالدها عن رغبتها الشديدة في أن تخصص حياتها لله، وطلبت إليه بناء قصر لها في مِنطقة نائية بـ”الزعفران” ليكون مكان عبادتها هي ومن اجتمع حولها من الفتيات اللاتي كُنّ يرغَبن العيش في حياة البتولية التي تمتلئ بالصلاة وبالصوم وبالعبادة لله، واللائي كُن أربعين عذراء. رحب والدها “مَرقس” بما اختارته ابنته، وبالفعل بنى لها قصرًا للتعبد فيه مع الفتيات الأربعين. وهٰكذا عاشت تلك الفتاة على الأرض حياة أشبه بالملائكة. لقد كانت “دميانه” أول من فكرت فى الرهبنة وتأسيس حياة تشبه حياة الدير؛ فكانت قائدة لأربعين عذراء في الحياة وفي طريق الاستشهاد.
تجرِبة مؤلمة
كانت “مِصر” آنذاك ولاية رومانية تئن من وطئة الاحتلال الرومانيّ في أيام حكم الإمبراطور “دِقْلِدْيانوس” الذي أثار اضطهادًا عارمًا على المَسيحيِّين في جميع أنحاء الإمبراطورية. وكانت “مِصر” تُعتبر من أهم الولايات وأخصها لدى “الرومان”، فقد كانوا يهتمون باستتباب أمورها وخُضوعها لهم. وفي غمرة ذٰلك الاضطهاد العنيف، أرسل الإمبراطور لاستحضار الوالي “مَرقس” وأمَره أن يسجد للأوثان، ممارسًا عليه ضغطًا شديدًا؛ فضعف وبخر لها!! وما إن سمِعت ابنته بذٰلك الأمر حتى تركت مكان خُلوتها، متجهةً إلى قصر والدها للقائه، وهي تحمل مشاعر الحَُزَْن والألم الشديدين.
الابنة تعلم
التقت “دميانه” والدها وأخبرته بحزنها الشديد من أجل تبخيره للأصنام، معلنةً أنها كانت تود أن تسمع خبر استشهاده عن أن يصلها نبأ عبادته للأوثان وتركه عبادة الله الحيّ! وسألته ألا يخاف الموت الذي هو انتقال إلى حياة أبدية أعظم، بل جدير أن يخاف الله القادر على أن يُهلك الجسد والنفس معًا، وأن طاعته للإمبراطور أو أيّ إنسان لا تكون أبدًا على حساب إيمانه وأبديته. لقد كان “الشهداء” يحملون في حياتهم شجاعة في ملاقاة الموت الذي لم يكُن يُخيفهم في شيء، متذكرين كلمات السيد المسيح: “… لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذٰلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أُريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعدما يقتُل، له سلطان أن يُلقي في جَهنم. نعم، أقول لكم: من هٰذا خافوا!”. بدأ الوالي “مَرقس” في التأثر بشجاعة ابنته وقوة إيمانها، وبكى بمرارة وبندم على ما ارتكبه، وتركها في الحال متجهًا إلى أنطاكية للقاء الإمبراطور “دقلديانوس” معلنًا ندمه، الأمر الذي أثار تعجبه؛ وحاول كثيرًا استمالته مرة ثانية إلى الوثنية فلما لم يتمكن من ذٰلك أمر بقطع رأسه. وإذ كان “دقلديانوس” يحب الوالي “مَرقس” ويحمل له الاعتزاز والتقدير، بدأ في البحث عن سر تحوله فعلِم أن ابنته “دميانه” هي السبب في ارتداده، فقرر إرسال جنوده يحملون آلات التعذيب انتقامًا منها.
السماء
مع إدراك “الشهداء” وإيمانهم العميق أن الحياة في هٰذا العالم أمرها إلى زوال، وهي وقتية وقصيرة جدًّا مقابل الحياة بعد الموت؛ كانوا يعيشون حياتهم كغرباء يتوقون إلى العودة لوطنهم السمائيّ. لذٰلك كانوا يعيشون في ذٰلك السلام الذي يهبه الله لهم حتى في لحظات الألم والموت؛ فرحلوا يظللهم السلام الذي ـ لا ـ لم يستطِع السيف أن ينزِعه منهم. شاهدت “دميانه” جُنود “دقلديانوس” يحيطون بالقصر ويُعدوا آلات تعذيبهم، فجمعت رفيقاتها ليصلِّين ويتشددن في ملاقاة الموت؛ وأعلنت أن فرصة الهرب متاحة من الباب الخلفيّ لمن تخاف منهن الموت، فلم تجد بينهن عذراء واحدة هابته!
حاول القائد المرسَل من قِبل الإمبراطور أن يدعو “دميانه” إلى السجود للآلهة، مقدمًا لها الوُعود بالأموال وبالمناصب وبالحياة الكريمة؛ لٰكنها رفضت بشدة. اغتاظ القائد وبدأ بسلسلة طويلة من العذابات، لكنها قدَّمت مشاهد رائعةً في احتمالها الآلام والأتعاب حتى أبهرت الوُلاة والحكام من قدرتها الفائقة على الاحتمال بصبر، دون ضعف في عزيمتها أو استنفاد لصبرها. كانت الأيام تشددها وتجذبها نحو السماء، أمّا معذبوها فقد تعِبوا أمام ذٰلك الصبر. وبعد عذابات شديدة، أمر القائد بقطع رأسها لتصير الأميرة التي نزلت عن كل ترف الحياة فصارت “أميرة الشهيدات” ومعها أربعون عذراء أخرى.
تكريمها
في أيام “الإمبراطور قسطنطين” ـ الذي أعلن مرسوم التسامح الدينيّ في المملكة الرومانية ـ سمِع بأمر الشهيدة “دميانه”، فاتفق مع أمه “الملكة هيلانة” أن تذهب إلى “الزعفران” لبناء كنيسة باسم الشهيدة “دميانه” هناك. وقد قيل عن الشهيدة “دميانه”: “سبقت القديسة دميانه عصرها كله وكانت لديها شجاعة وجرأة عجيبة”.
وهٰكذا حين نذكر “الشهداء” ونتحدث عنهم، فإننا نحتفل بهم: بصبرهم وبمحبتهم، وبإيمانهم الذي لا يتزعزع و… وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي … !
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ