استكملنا في المقالة السابقة حِقبة “البابا يعقوب” ـ الخمسين في بطاركة “الإسكندرية” (٨١٩-٨٣٠م)، واهتمامه بشعبه ورعيته من الرهبان والعَلْمانيِّين، وحياته التي امتلأت بالأعمال الحسنة والصلاة والصوم حتى أتى الله على يديه كثيرًا من المعجزات؛ فوصلت سيرة ذٰلك الأب إلى الأقطار الأخرى وحضر البطريرك الأنطاكيّ “دِيونِيسيوس” مرتين ليشهد عن حياة “البابا يعقوب” النقية وقداسته. وقد انتقل ذٰلك الأب عام 830م، ثم خلفه “البابا سيمون” ـ الحادي والخمسون في بطاركة “الإسكندرية”، مدة خمسة أشهر ونصف الشهر تقريبًا ثم انتقل من هٰذا العالم، حيث ظل الكرسيّ البطريركيّ شاغرًا من بعده قرابة العامين ـ بسبب خلافات سنعود إليها في حينها ـ حتى رُسم “البابا يوساب” بطريركًا.
وُلاة “مِصر”
أمّا عن وُلاة “مِصر” في تلك الحِقبة، فقد تولَّى أمرها “عَبْدَوَيْهِ بن جَبَلة” من بعد حكم “عيسى بن يَزيد الجُلُوديّ” في المدة الثانية (٢١٤-٢١٥هـ) (٨٢٩-٨٣٠م) ثم عَزله.
“عَبْدَوَيْهِ بن جَبَلة” (215-216هـ) (830-831م)
هو من قواد “بني العباس”، وقد ولّاه “المعتصم”، قبل خروجه إلى “الشام”، على حكم “مِصر” نيابة عنه. وكان من أمره بعد توليه أنه عمِل على إصلاح شُؤون البلاد وتثبيت الأمور التي قررها “المعتصم” فيها. ثم قام بعض من سكان “الحوفية” من “القيسية” و”اليمانية” بالخروج على الحاكم؛ فجهز “عَبْدَوَيْهِ” جيشًا لمحاربتهم، وأرسل إليهم “عيسى بن منصور” والي “حوف”، وانتصر عليهم في الحرب. وبعد تلك الأمور، حضر إليه الأفشين “حيدر بن كاوس” من أحفاد أكاسرة الفُرس ـ “الأفشين” هو لقب فارسيّ يُطلق على من يحكم “أُشْرُوسَنَّة”، وقد ورثه عن أبيه الذي كان آخر ملك من عائلته ـ يصحَبه “عليّ بن عبد العزيز الجَرَويّ” لأخذ المال، ولٰكنهم تقاتلوا. ثم قام “الأفشين” بعزل “عَبْدَوَيْهِ” عن حكم “مِصر”، وولى “عيسى بن منصور بن موسى” بدلاً عنه؛ وهٰكذا حكم “عَبْدَوَيْهِ” على “مِصر” عامًا واحدًا. وقد اختلف المؤرخون في المقصود بكلمة “المال”: فمنهم من قال إنه مال الضرائب المفروضة على البلاد التي يسددها حاكم “مِصر”، وآخر قال إنه مال “عَبْدَوَيْهِ”، وثالث ذكر أنه جاء ليأخذ مال “عليّ بن عبد العزيز الجَرَويّ” الذي امتنع عن دفعه فقتله “الأفشين” وأبعد “عَبْدَوَيْهِ” عن حكم “مِصر” وغادر إلى “برقة”؛ لٰكنه عاد إلى “مِصر”، وسكن بها ـ وسيأتي الحديث عن ذٰلك في مكانه.
في ذٰلك العام، انتقل “المأمون” من “المُوصل” ليحارب “دابِق” ـ قريةً قرب مدينة “حلب” ـ و”أنطاكية”، ثم توجه إلى “الشام” وأقام هناك.
“عيسى بن منصور” (216-217هـ) (831-832م)
يسمَّى “عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقيّ” (أو “الرافعيّ” بحسب بعض المؤرخين)؛ وقد تولى “مِصر” نائبًا عن “المعتصم” بعد عزل “عَبْدَوَيْهِ”. وكان سيئ السيرة حتى إنه في أيام حكمه قامت عليه ثوْرات في الوجه البحْريّ من العرب والأقباط متجهين إلى محاربته هو وجيشه؛ فلم يقدر على شعب “مِصر” متقهقرًا إلى “الفسطاط”؛ وفي هٰذا يذكر “التَّغْريّ”: “… فتجهز «عيسى» وجمع العساكر والجند لقتالهم؛ فضعف عن لقائهم وتقهقر بمن معه؛ فدخلت «الأقباط» وأهل الغربية «مِصر» وأخرجوا منها «عيسى» هٰذا على أقبح وجه لسوء سيرته؛ وخرج معه أيضًا متولي خَراج (ضرائب) «مِصر» وخلعوا الطاعة …”؛ فسمع “الأفشين” بما حدث؛ فجاء إلى “مِصر”، واستعد لقتال الثائرين، وانضم إليه الحاكم “عيسى بن منصور” وآخرون. وحدثت حروب كثيرة انتهت بانتصار “الأفشين” الذي قتل وأسر كثيرين، ثم ذهب إلى “الحوف” وقاتل أهلها لِما بلغه عنهم، وأسَر عددًا كبيرًا منهم. وقد استمرت الحروب في عدد كبير من مدن “مِصر”، منها: “الإسكندرية”، و”دميرة” وهي قرية قرب “دِمياط”، و”محلة الخلفاء” و”قُرْطَسا” بالبحيرة، وغيرها؛ إلى أن قدِم الخليفة “المأمون” إليها في أوائل عام 217هـ (832م).
وكان “المأمون” في ذٰلك الوقت قد رجَع إلى “العراق” بسبب حربه مع ملك “الروم”، ثم توجه إلى “دمَِشق” ومنها إلى “مِصر” التي كان غاضبًا من حاكمها “عيسى بن منصور” متهمًا إياه بأنه السبب في تلك الحرب فعزله؛ وفي هٰذا يذكر “الكنْديّ” أن الخليفة “المأمون” قال لـ”عيسى بن منصور”: “لم يكُن هٰذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عُمالك. حمّلتم الناس ما لا يُطِيقون، وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد.”. إلا أنه سار بجيشه إلى أهل “الغربية” و”الحوف” وقاتلهم وقتل “القِبط” وسباهم، فيقول “التَّغْريّ”: “ثم سار عسكره لقتال أسفل الأرض أهل «الغربية» و«الحوف»، وأوقعوا بهم، وسبَوا القِبط، وقتلوا مُقاتِلتهم وأبادوهم …”. ويذكر “الكنْديّ” أن “المأمون” حكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال من “القِبط”؛ فبِيعوا وسُبي أكثرهم. قضَّي “المأمون” في مِصر تسعة وأربعين يومًا، ثم رحل بعد أن ولّى عليها “كَيدر”.
“كَيدر” (217-219هـ) (832-834م)
يسمَّى “نصر بن عبد الله”، واشتُهر بِاسم “كَيدر”. ولّاه الخليفة “المأمون” أمر “مِصر” بعد عزل “عيسى بن منصور”. وقد أرسل إليه الخليفة رجلاً يُدعى “ابن بَسْطام” ليتولى أمر الشرَْطة، إلا أن “كَيدر” عزله سريعًا لسوء سيرته إذ كان قد ارتشى، وكان يعامل الشعب بقسوة. وفي أثناء حكمه، تُوُفِّي الخليفة “المأمون”، وتولى الخلافة من بعده أخوه “المعتصم” الذي أصدر أمرًا بقطع المال الذي يقدمه للعرب. وما إن قام “كَيدر” بتنفيذ أمر “المعتصم”، حتى قامت جماعة يقودها “يحيى بن الوزير الجَرَويّ” بثورة على الحاكم. وبينما يستعد “كَيدر” لحرب الخارجين عليه، تُوُفِّي، بعد أن ترك ابنه “المظفر بن كَيدر” في حكم “مِصر” وقد أقره “المعتصم” حاكمًا لها؛ وهٰكذا كان مدة حكم “كَيدر” سنتين وشهرين إلا بضعة أيام. وفي أثناء حكمه كانت حرب شديدة بين “المأمون” وملك “الروم”، وشب فيها حريق هائل في مدينة “البصرة” دمر أكثرها، وشهِدت وفاة “المأمون”.
وفاة “المأمون” (218هـ) (833م)
تُوُفِّي الخليفة “المأمون” وهو يعسكر في أرض “الروم” بمكان يُدعى “البَدَنْدُون” بين مدينتي “لؤلؤة” و”طَرسوس”. ويذكر أحد المؤرخين أن “المأمون” و”المعتصم” أخاه كانا يجلسان على الشاطئ في يوم حارّ؛ فمرِضا بالحمى؛ ومات “المأمون” وحُمل إلى “طَرسوس” حيث دُفن؛ وقد كتب عنه المؤرخ الاسكتلنديّ سِير ويليام موير: “فما لا نزاع فيه أن «المأمون» كان على وجه العُموم متصفًا بالعدل والحِلم، وإنما يؤخذ عليه بأنه كان متقلبًا في آرائه وشعوره سواء أكان ذٰلك في المسائل السياسية أو الدينية … على أننا مع اعترافنا بعدله، لا نستطيع أن ننزهه عن الجُنوح في بعض الأحايين (الأحيان) إلى الجَور (الظلم) واستعمال القسوة من غير مُسَوِّغ … وما لقِيَه «هَرْثَمة» و«طاهر» مع تفانيهما في نصرته وتوطيد حكمه، واضطهاده لكثير من أجِلّاء المفكرين وأصحاب الآراء المخالفة لرأيه في بعض مسائل الدين … إلا أننا إذا راعَينا طول مدة حكمه وموقفه النبيل في عفوه عن الخارجين عليه في «بغداد»، نرى كفة عدله وحِلمه أرجح من كفة جَوره وقسوته …”.
إلا أن عصر “المأمون” كان بشهادة كثير من المؤرخين من أزهى عصور “العلم” و”الفكر”؛ فقد كان وقتئذ اهتمامٌ بجميع فُروع العلم والفكر: “الرياضيات”، و”الفلك”، و”الطب”، و”الفلسفة”، وغيرها. وقد أدرك “المأمون” أن التقدم والسعادة لشعبه لا يتأتَّيان إلا بالتربية والتهذيب ونشر العلم والاهتمام بالقائمين عليه؛ لذٰلك اهتم بالعلماء وجميع المشتغلين بالعلم، وحث على الأبحاث العلمية والأدبية، وبنى المدارس والجامعات في أنحاء البلاد. ويُذكر عن اهتمام “الدولة العباسية” بالعلم: “… فكان أول من عَُنِيَ (اهتم) منهم بالعُلوم: الخليفة الثاني “أبو جعفر المنصور”، وكان مع براعته في الفقه كِلْفًا (عاشقًا مُوْلَعًا) بـ«الفلسفة» وعِلم «النجوم». ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع «عبد الله بن المأمون بن هارون الرشيد»، تمم ما بدأ به جَده «المنصور»، فأقبل على طلب العلم في مواضعه …”. وقد ازدهرت حركة الترجمة فترجم للعلماء والفلاسفة مثل: «أفلاطون» و«أرسطوطاليس» و«أبُقراط» و«أُقليدس»وغيرهم، كما تُرجمت في عصره أيضًا كتب عن “الفارسية” و”الهندية” و”العبرانية” و”اللاتينية” و”القبطية” و … وعن “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ