تحدثنا فى مقالة سابقة عن حاكمَى «مِصر»: «مالك بن كَيدَر»، و«عليّ بن يَحيَى». ثم بدأنا الحديث عن أحوال الكنيسة فى زمن حكم «المعتصم»، وأن الكرسيّ المَرقسيّ ظل شاغرًا قرابة عامين بعد نياحة «البابا سيمون» الحادى والخمسين فى بطاركة «الإسكندرية»، ودبت خلافات كثيرة فى اختيار الأب البطريرك إلى أن اتفق الجميع على اختيار «الراهب القَس يوساب المقارى» ـ بعد أحداث كثيرة ذكرناها سابقًا ـ ليكون البابا «يوساب الأول» الثانى والخمسين فى بطاركة «الكرسى المَرقسى».
«البابا يوساب الأول» (831-849م)
نبوءات
وُلد فى مدينة «منوف». ثم تبناه أَرخُن يُدعى «تادرُس» بعد وفاة والديه اللذين تركا له ثروة طائلة. ومع رغبته فى حياة الرهبنة، أرسله «تادرُس» برسالة إلى «البابا مَرقس» فقبله فى كنفه، وقضَّى لديه زمنًا، ثم اتجه إلى حياة الرهبنة والتوحد، بعد أن تصدق بجميع أمواله على الفقراء والمحتاجين. صار «يوساب» تلميذًا عند راهب قَسّ ذى سيرة حسنة وحياة تقية يُدعى «بولُس»، حتى إن الله ـ تبارك اسمه ـ كان يُظهر له كثيرًا من الأسرار والنبوءات عن المستقبل؛ وقد فرِح جدًّا عند رؤيته «يوساب» الصبيّ إذ وجده متواضعًا محبًّا لله. ثم أصبح الراهب «يوساب» قَسًّا بعد أن سلك بمحبة وتواضع فى حياة الرهبنة. وبعد زمن طويل، كبِر الراهب «بولُس» واعتلت صحته، فكان «يوساب» يخدُِمه ليلاً ونهارًا، وباركه الراهب الشيخ ببركات كثيرة؛ ولما قربت وفاته تنبأ له: «يا يوساب، هوَذا الرب قد أنعم عليك بنعمه وميراثه لترثه»، وكانت تلك نبوءةً عن اعتلائه الكرسيّ المَرقسيّ؛ كما تنبأ أنه سينال أتعابًا وضيقات شديدة، وطلب منه أن يهتم ويعتنى بإخوته من الرهبان فى الدير. وظل «يوساب» فى الدير إلى أن سِيم بطريركًا.
صعوبات
جلس البابا «يوساب الأول» على «كرسى الإسكندرية». وكانت الكنيسة فى شدة مالية كبيرة، آنَّةً ورازحةً تحت فقر مُدقِع؛ فبدأ البابا البطريرك فى الاهتمام بأمورها وغرس الكُروم وبناء الطواحين والمعاصر. إلا أن الحُروب قد نشِبت آنذاك فى «مِصر»، وازدادت أعمال النهب والسلب والقتل فى مواضع كثيرة بالبلاد! وقد أحزنت تلك الأمور قلب البابا البطريرك الذى ظل مداومًا على الصلاة من أجل أن يرفع الله الضيقات عن البلاد؛ وكان ذٰلك فى نهاية أيام حكم «الخليفة المأمون».
وحدث فى تلك الأيام غلاء عظيم، فيذكر «ساويرس ابن المقفع»: «غلاءً عظيمًا على كورة مِصر، حتى إن القمح بلغ خَمس ويبات (الويبة كيل مِصريّ = 69‚8 كجم) بدينار. ومات بالجوع خلق كثير من النساء والأطفال والصبيان والشُّيوخ والشبان، ومن جميع الناس ما لا يُحصى عدده، من شدة الجوع»!!! واتُّفق أن جامعَى الضرائب آنذاك ويُدعَيان «أحمد بن الأسبط» و«إبراهيم بن تميم» كانا يجمعان الضرائب بلا رحمة ولا شفقة على الشعب؛ فمع كثرة الضيقات التى يتعرض لها المِصريُّون آنذاك، فإنهما كانا يطالبان أفراد الشعب بما لا طاقة لهم به من أموال، كما كانا يؤذيان ويعذبان من لا يتمكن من تأدية الأموال المطلوبة وبخاصة المَسيحيُّين البِشموريُّين. فيذكر المؤرخ «ابن المقفع» عن العذابات التى تعرض لها البِشموريُّون: «… لأنهم كانوا يربِطونهم فى الطواحين بدلاً من الدواب، ويضرِبونهم حتى يُطحنوا مثل الدواب!! وكان الذى يعذبهم رجل اسمه «غيث». وتمادت عليهم الأيام وانتهَوا إلى الموت…»!! وهٰكذا أخَذا فى التنكيل بالشعب حتى بدأت الفتن، واندلعت الثوْرات فى كورة «مِصر»، منضمين إليها البِشموريُّون من أجل ما عانَوه من ضيق وعذاب؛ وكان حاكم «مِصر» فى ذلك الوقت «عَبْدَوَيْهِ بن جَبَلة». وما إن وصل الأمر إلى الخليفة «المأمون» حتى أرسل جُيوشًا إلى «مِصر» بقيادة «الأَفشِين».
صادف البابا «يوساب الأول» والمِصريِّين ضيقة عظيمة: إذ حارب «الأفشين» الثائرين وكان يقتُل جميع من صادفه فيأخذ الأبرياء بجريرة المذنبين، فقتل كثيرًا من المَسيحيِّين فى كل موضع مر به، حتى وصل إلى مدينة «الإسكندرية» مزمِعًا أن يقتُل جميع أهلها، ولٰكن الله لم يسمح له من أجل صلوات البابا البطريرك وتضرعات المِصريِّين الأبرياء وابتهالاتهم. قام فى ذٰلك الوقت البِشموريُّون بجمع السلاح وأخذوا فى محاربة «الأفشين» وكانوا يقتُلون كل من حضر إليهم، كما رفضوا كتابة البابا «يوساب الأول» إليهم فى دعوته إياهم بالتوقف عن القتال، وأصروا على الاستمرار فى المقاومة، بل أهانوا الأساقفة الذين حملوا إليهم كتابات البابا البطريرك. وعندما رأى «الأفشِين» أنهم لم يرتدعوا، أرسل إلى «المأمون» يُعلمه بحقيقة الوضع. ويذكر المؤرخ «ساويرس بن المقفع»: (وكان «الأفشِين» بـ«مِصر» ينتظر جواب ما كتب به إلى «المأمون» بسبب أهل «بِشمور». وكان «المأمون» رجلاً حكيمًا فى فعله، ويبحث عن مذهبنا، ويجلس عنده قوم حكماء يفسرون له كتبنا؛ وبهٰذا الحكم كان محبًّا للنصارى).
جاء الخليفة «المأمون» إلى «مِصر» مصطحبًا معه البطريرك الأنطاكيّ «دِيونِيسيوس»؛ وعندما علِم البابا «يوساب الأول» بوصولهما ذهب لاستقبالهما كما يليق بالملوك. وقد فرِح البطريرك الأنطاكيّ برؤية البابا «يوساب الأول»، ولاقى «المأمون» البابا بفرح وإكرام. وعلِم الخليفة أن البابا قد كتب إلى «البِشموريِّين» ليتوقفوا عن حربهم وأنهم قد أبَوا؛ فطلب الخليفة من البطريركَين أن يذهبا إلى «البِشموريِّين» ليرُداهم عن الثورات والحُروب التى أصروا أن يسلكوا فيها. فذهب البطريرك الإسكندريّ مصطحبًا معه البطريرك الأنطاكيّ للقاء «البِشموريِّين»، ولٰكنهما لم ينجحا فى تحقيق مقصدهما إذ رفض «البِشموريُّون» الاستجابة لهما. فأمر «المأمون» بقتالهم؛ فهلك البِشموريُّون بالسيف، وخُرِّبت ديارهم وكل ما لهم، وأُسر كثيرون منهم إلى مدينة «بغداد». ويُذكر أن البطريرك الأنطاكيّ تقدم إلى «المأمون» وأبلغه أن سبب كل تلك الحرب الظلم الذى وقع من جامعَى الضرائب تُِجاة الشعب و«البِشموريِّين» خاصةً؛ فطلب منه «المأمون» أن يكُفّ ويترك «مِصر» على الفور! إذ إن جامعَى الضرائب كانا من قِبل أخيه «المعتصم»، وإن عرَف ذٰلك قتله!! ولما سمِع «المعتصم» ذٰلك، جَدّ فى طلب البطريرك الأنطاكيّ الذى ظل هاربًا منه إلى أن عاهده «المعتصم» ـ وكان قد أصبح هو الخليفة ـ بالأمان؛ فعاد إلى كرسيّه.
مشكلات
لم يلقَ البابا «يوساب الأول» الأتعاب والآلام من الأحداث التى كانت تمر بـ«مِصر» فى ذٰلك الوقت فحسب، بل كانت آنذاك مشكلات داخلية: فقد رفع شعبا «تنيس» و«مِصر» شكواهما إلى البابا البطريرك فى أسقفَيهما «أنبا إسحاق» و«أنبا تادرس» من معاملتهما الشديدة على الشعب. فطلب إليهما البابا «يوساب الأول» عدة مرات أن يترفقا برعية كل منهما، لٰكنهما لم يسمعا له ولم يقبلا النصح أو الإرشاد؛ وهٰكذا ظلت الأمور حتى تفاقمت جدًّا، وأرسلت الرعيتان مستغيثتَين بالبابا طالبتَين إلى قداسته أن يرُد عنهما أفعال الأسقفين: «إن أرغمتنا على الخضوع لهما، تحولنا إلى مِلة أخرى»!! حاول البابا «يوساب» أن يقارب بين كل من الأسقفين وبين الرعيتين لٰكنه لم يُفلح؛ فلم يكُن منه إلا أن عقد مجمعًا من أساقفة «مِصر»، وأطلعهم على أمر الأسقفين، رافضًا ومتبرئًا من أعمالهما، فقضى المجمع برفع الأسقفين من كرسيهما؛ ولما سمِع الأسقفان بذلك تآمَرا على البابا «يوساب» وذهبا إلى حاكم «مِصر» ووشَيا به لديه أنه هو من ساند الثوار ضده ـ ويذكر بعض المؤرخين أنه لم يكن الحاكم بل «الأفشِين».
صدّق الحاكم وشاية الأسقفين فى البابا «يوساب الأول»، وأرسل أخاه إلى الكنيسة لاستحضار الأب البطريرك لقتله و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ