أود أن أهنئ المِصريين جميعًا فى احتفالات ذكرى «تحرير سيناء» 25/4 من كل عام، حين رُفع العلم المِصرىّ واستعادت «مِصر» جزءًا غاليًا من أرضها يحظى بمكانة متميزة فى قلب كل مِصرىّ. و«سيناء» هى تلك الأرض التى تميزت على مر التاريخ وجذبت انتباه العالم إليها: ففى جغرافيتها نراها تربط بين قارتى «أفريقيا» وآسيا ما أضفى تميزًا على موقع «مِصر».
أمّا تاريخها، فقد قدم وقائع غيرت وجه العالم وصاحبتها بركة عظيمة إذ إنها الباب الذى عبر إليه رجال الله فنالت بركات عظيمة: فقد عبر «سيناء» إلى «مِصر» كل من خليل الله «إبراهيم» وابنه «إسحاق»، و«يعقوب» وابنه «يوسُِف الصِّديق»، كما عبرها كليم الله «موسى النبىّ» بعد أن كلمه الله ـ تبارك اسمه ـ مرتين وأمره بقيادة شعب بنى «إسرائيل» إلى خارج «مِصر»، ومثلما عبرت «العائلة المقدسة» بها فى رحلتها إلى «مِصر» وفى عودتها إلى «فِلَِسطين»؛ وهكذا امتلات أرض «سيناء» بالمعالم السياحية الدينية التى جذبت أنظار العالم إليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «جبل موسى»، و«جبل سانت كاترين»، و«الوادى المقدس» بجانب «كنيسة العليقة»، و«طريق العائلة المقدسة»، و«درب الحج». وهكذا صارت «سيناء» الأرض المِصرية نبع للبركات فى جميع الأديان.
أيضًا تتميز «سيناء» بكثير من الثروات الطبيعية منذ العصر الفرعونىّ وخصوصًا «الفيروز» حتى أطلق عليها اسم «أرض الفيروز»، كما تميزها بطبيعتها الخلابة التى تضفى عليها جمالاً ترصده أعين العالم بتقدير بالغ.
وعلى أرض «سيناء» سالت الدماء المِصرية من أجل تحريرها واستعادتها فى «حرب السادس من أكتوبر» عام 1973م حتى رُفع عليها العلم المِصرىّ، وهو ما جعلها قريبة وغالية جدًّا إلى نفس كل مِصرىّ تسكن قلبه ووجدانه.
مسيرة تستمر
فى التاسع من فبراير، بتكليف من السيد الرئيس «عبدالفتاح السيسى» رئيس جُمهورية مِصر العربية، انطلقت العملية الشاملة «سيناء 2018م» للتصدى للبؤر الإرهابية التى تهدد أمن «مِصر» وسلامها؛ للقضاء على العناصر الإرهابية التى سفكت دماء أبنائها الأبرياء. وتُعد عملية «سيناء 2108م» حربا أُعلنت على الإرهاب شَمال سيناء ووسطها، فى بعض مناطق دلتا «مِصر»، والظهير الصحراوىّ غرب وادى النيل، كما تُعد استمرارًا لدور «مِصر» الريادىّ فى العالم وعن المَِنطَِقة. ففى حديث صحافىّ، وصف «فيتشسلاف ماتوزوف» الدبلوماسىّ الروسىّ السابق خبير شُؤون الشرق الأوسط تلك العملية بقوله: «… العالم المعنىّ بمحاربة الإرهاب كلُّه يتابع جهود (مِصر) فى مواجهة الإرهاب، و(مِصر) اختارت المواجهة الشاملة مع الإرهاب، لأنها تدرك ثقلها ودورها فى المَِنطَِقة الذى جعلها فى طليعة الدول المحاربة للإرهاب… إن (مِصر) هى رأس الحربة فى مواجهة قوى التطرف والإرهاب فى شَمال أفريقيا…»؛ نعم، فمنذ فجر التاريخ و«مِصر» تحمل رسالة الحضارة والحياة إلى العالم، والوقت نفسه تحمل على عاتقها مسؤوليات ريادتها عن المَِنطَِقة ودفاعها عنها؛ إنها كعهدها دائمًا تحارب الإرهاب عن العالم.
وحسبما اعتادت «مِصر» من أبنائها الأبطال المخلصين، فقد بدأت العملية بإصرار وحماس فائقين من أبناء الجيش المِصرىّ الذين شاهدناهم يؤكدون بالقول وبالفعل أنهم ماضون فى مُهمتهم المقدسة، ولن يعودوا إلا وقد تطهرت الأرض المِصرية من العُدوان الإرهابىّ الغاشم الأمر الذى جعل من تلك العملية الشاملة أن تتشابه هى و«حرب أكتوبر» المجيدة إلى حد كبير. وقد أكد كثير من أبناء الجيش المِصرىّ الذين قاربت مدة تجنيدهم على الانتهاء أنهم مستمرون جنبًا إلى جنب مع زملائهم، بعد أن طلبوا تمديد مدة خدمتهم بالجيش حتى الانتهاء من الحرب من أجل الدفاع عن البلاد؛ ومن أولٰئك أول شهداء العملية الشاملة «سيناء 2018م» المجند «أحمد وهب الله» وكان مقيمًا بمدينة الغردقة: كان المجند «أحمد وهب الله» قد انتهى من خدمته العسكرية، ويستعد لتسليم مُهماته، لٰكن مع بَدء العملية الشاملة أعلن لقائده رغبته فى الاستمرار قائلاً: «أنا مش عايز أمشى… عايز أكمل لحد لما تتحرر «سيناء» وتتطهر»، وفى مكالمة لوالده أعلن له رغبته فى استكمال المسيرة؛ ليَضحَى أول شهداء العملية الشاملة.
لقد شهِدت «مِصر» فى ظل تلك العمليات بطولات أبنائها المخلصين الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فداء تراب بلادهم، مستهينين بالموت من أجل تأمين حياة المِصريين وسلامهم. وإلى هنا تتوالى الأسماء والمشاهد أمامى: فها هو شهيد الإرهاب فى «رفح» النقيب «أحمد فؤاد حسن» الذى وُجدت رسالة فى جيبه يودع فيها أمه ويحدثها عن التصدى للإرهاب فى «سيناء»، كاتبًا: «إنها حرب حقيقية»؛ مشهد آخر لشهيد «العريش» وأحد أبطالها النقيب «ميلاد سعد جورجى» الذى أصر على الذَّهاب إلى «سيناء» لمحاربة الإرهاب، تاركًا أسرته وخطيبته، كاتبًا على صفحة تواصله الاجتماعىّ: «أنا الشهيد القادم»! وقد ذكرت والدته أنه فى إجازته الأخيرة، قال لها: «ادعى لى يا ماما أستشهد علشان أموت فدا مِصر»!!. كما قال لخطيبته: «بلدى ديه عِرضى: لو أنا ما عرفتش أحميها، يبقى مش ها أعرف أحميك». أمّا الشهيد الملازم الأول «إسلام محمد إسماعيل» بطل «الفرقة 999 كوماندوز»، فقد أكد لوالدته أنه سيكون من الشهداء، كاتبًا على صفحته: «اللهم اغفر لى بدمائى! واجعل كفنى ردائى العسكرىّ! وارزقنى الشهادة!».
وإن تعددت أسماء أبطال «مِصر» الشهداء، فإن قلوبهم تلاقت وتوحدت على المحبة والبذل، تضاءلت حياتهم أمام محبتهم للوطن حتى صارت «مسيرة فى حب الوطن». أقدم بعضًا من أبطالنا على سبيل المثال لا الحصر: الشهيد الرقيب الأول «محمد علوى حسن»، والشهيد الرقيب «مصطفى جبر»، والشهيد المجند «أحمد عبدالحميد»، والشهيد المجند «محمد أحمد عبدالرازق»، والشهيد المجند «جاد الرب حسنى»، والشهيد المجند «مينا تواب»، والشهيد المجند «محمد طٰه محمود ��بدالبارى» الذى من العجيب أن ابن عمه كان يرافقه فى أداء الخدمة العسكرية وبعد استشهاد «محمد» حاولت الأسرة إقناع ابن العم بالانتقال إلى مكان آخر لٰكنه رفض قائلاً: «مش ها أرجع إلا لما أرجّع حق أخويا أو أرجع شهيد زيه»، وأبطال آخرون كُثْر لا تتسع المقالة لذكرهم جميعًا، إلا أنهم محفوظون فى قلوبنا وأفكارنا، سطّر التاريخ ومضات محبتهم وتضحياتهم لـ«مِصر أم الدنيا».
إننا إن كنا نحتفل بـ«عيد سيناء»، فإنه بلا شك أولاً احتفال بأبطالها؛ وفى هذه المناسبة، أود أن أقدم باقة حب وشكر وعرفان بجميل كل شهيد مِصرىّ بذل نفسه من أجل الدفاع عن الوطن الذى أحبه، ومات ليحفظ لنا جميعًا الحياة الآمنة. إن الشهداء ليظلون دائمًا صفحة مشرقة من صفحات التاريخ المِصرىّ، و… والحديث عن «مِصر الحلوة» وأبطالها لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى