تحدثنا في المقالة السابقة عن “الهُوية الرقْمية الجديدة” لكل إنسان يعيش على سطح الأرض، من خلال شريحة أو وشم في جسده يربِطه بكل ما حوله من أشياء؛ وقد وصلتني تعليقات كثيرة إيجابية، كان منها تعليق مهم لأحد الأساتذة الكبار، الذين أكن لهم كل تقدير واحترام لمكاناتهم العلمية وما قدموه للعالم في خدمة البحث العلميّ سنوات طوال؛ كتب يقول: أعتقد أن كل هٰذا من وحي الخيال العلميّ، وليس حقيقيًّا.
إن حرية الرأي مكفولة للجميع، وأحترم الصغير والكبير، وما يُكتب من تعليقات أضعه في الحُسبان. أدعوكم اليوم، إلى التجول معًا في صفحات التاريخ، لنقرأ كيف تطور الاتصال بين البشر.
يُعد الاتصال بين البشر من الحاجات الأساسية البالغة الأهمية لحياة الإنسان؛ ومن دون إشباع هٰذا الاحتياج لن تكون أسرة أو مجتمع أو مؤسسات. وقد حاول الإنسان منذ فجر التاريخ أن يتواصل مع الآخرين ويتصل بهم لنقل ما لديه من أفكار وآراء فالاتصال يعبّر عن عملية بث أو إرسال رسالة من شخص هو “المرسل” بطريقة ما إلى شخص آخر هو “المستقبل”. وفي البداية كانت عملية الاتصال أولاً مباشرة بين الأفراد، وغالبًا شفهية. ومع ازدياد أعداد البشر وبُعد المسافات بينهم، ظهر احتياج الإنسان إلى إيجاد وسائل أخرى للتواصل؛ فبدأت رحلة البشرية وسعيها لتحقيقه وتطويره على مر العصور والأزمان.
ومع اكتشاف الإنسان للكتابة، بدأت رحلة التطور في وسائل الاتصال؛ فصارت النقوش والرسوم وسيلة التي تمكّن من نقل الرسائل إلى الآخرين وتتبع الأخبار وإيصالها إليهم. ويمكن اعتبار “الفارسية” ثم الرموز “الهيروغليفية” أقدم أشكال الكتابة التي تمكن العلماء بعد جهود مضنية من فك رموز رموزهما إلى جانب لغات الديموطيقية واليونانية والصينية والرومانية واللاتينية. ومع صناعة الورق في الدُّول القديمة، مثل “مِصر” و”الصين” تطور الاتصال بين البشر وبدأ التواصل بالآخرين بواسطة الرسائل المكتوبة، فبدأت خدمة البريد داخل “الصين” فقط، واستخدم ورق البردي في أنحاء “مِصر” كافة؛ هٰذا إلى جانب استعمال الإنسان للإشارات والهتاف والنار والدخان وانعكاسات أشعة الشمس.
تطورت الاتصالات في القرن الثاني الميلاديّ، بعد اختراع الورق بشكله الحديث وتطوير أول مطبعة خشبية اخترعتها “الصين”، ثم استخدام الإنسان للحمام الزاجل في نقل الرسائل، إضافة إلى وجود رجل البريد، ويذكر أن رجال البريد كانوا يحملون الرسائل فوق صهوات الجياد أو في مركبات البريد. وفي القرن الخامس عشَر، اخترع الألماني “يوهان جوتنبرج” الطباعة بالحروف المتفرقة، واستخدام المعدِن بدلاً من الخشب، ليطبع أول كتاب عام 1456م. وفي عصر النهضة (القرون 14-17م)، بدأت “أوروبا” بوصول الطباعة الميكانيكية بالحروف المطبعية المتنقلة عصر الاتصالات الجماهيرية، الذي غير المجتمعات باتساع دائرة تداول المعلومات والأفكار إلى خارج حدود كل دولة.
وفي القرن الثامن عشَر، ظهر التلغراف الذي اعتمد على الإشارات البصرية بين المحطات؛ ليحقق الإنسان تطورًا هائلاً بعد اكتشاف الكهرباء، وينتقل إلى مرحلة جديدة: الاتصالات السلكية، عام 1836م، وذٰلك عندما تمكن العالمان “صَمويل مورس” و”ألفريد فايل” من تطوير تلغراف كهربائيّ تُنقل الرسائل به. ثم جاءت “شفرة مورس” التي عبّرت عن الحروف بواسطة نبضات كهربائية وسكتات بينها بهدف التواصل على مسافات طويلة باستخدام كابلات. وكان أول خط تلغراف كهربائيّ بالعالم بالولايات المتحدة الأمريكية بين مدينتي “واشنطن” و”بالتيمور”.
وهٰكذا انطلقت شرارة الثورة في عالم الاتصالات لتشهد تطورًا جديدًا مع بدء إرسال الإشارات اللاسلكية واختراع الهاتف، وكان أول سنترال تليفونيّ في مدينة “New Haven” الأمريكية عام 1878م، وفي العام التالي افتتحت “باريس” أول سنترال تليفونيّ بها. ثم اخترع العالم الإيطالي “غوليلمو ماركوني” المذياع واستخدم الموجات الكهرومغناطيسية، ثم ابتكر المهندس الاسكتلنديّ “چون لوچي بيرد” التلفاز الميكانيكيّ عام 1926م، وفي العام التالي اختُرع التلفاز المعروف اليوم، وأعقب ذٰلك اختراع الأجهزة اللاسلكية. وهكذا حقق الإنسان ما كان يُعد حلمًا، وما تزال صفحات التاريخ تحمل كثيرًا، فما كان يُحسب خيالاً ومستحيلاً بات واقعًا حقيقيًّا اختُرع وطُور وانتشر، وما كان لا يقبله عقل الأجداد قبِله بسهولة عقل الأبناء. وما يحدث الآن في العالم هو نتاج الفكر البشريّ للسيطرة و …. وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ