تحدثت مقالة سابقة، من سلسلة مقالات “مدينة السلام”، عن حكم دولة المماليك لمدينة القدس الذي تجاوز قرنين ونصف القرن، إلى أن انتهى بأيدي العثمانيين بسبب ضعف حكام المماليك واندلاع الصراع، ما أدى إلى تردي أحوال البلاد. ثم كان الحديث عن بَدء دولة العثمانيين وتوسعاتها التي وصلت إلى فتح مدينة “القسطنطينية” سنة ١٥١٧م. أما “مدينة السلام”، فقد دخلت تحت حكم العثمانيين سنة ١٥١٧م في عهد السلطان”سَليم الأول” الذي جدد سورها، ثم تعاقب اهتمام عدد من سلاطينهم بها.
ومع اعتلاء “مُحمد علي باشا” عرش “مِصر”، أرسل جيشًا بقيادة ابنه “إبراهيم باشا” إلى “الشام”؛ وسيطر على مدينة “القدس” سنة ١٨٣١م لتصبح تحت حكم أبيه مدة عشر سنوات،حتى عادت إلى العثمانيين سنة ١٨٤١مفي عهد السلطان “عبد المجيد الأول”.
وفي عهد “عبد المجيد الأول” (١٨٣٩-١٨٦١م)، الحادي والثلاثين في سلاطين العثمانيين، نشِبت حرب بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية (عُرفت بـ”حرب القِرِم”) بدأت في أكتوبر ١٨٥٣م، واستمرت حتى مارس ١٨٥٦م؛ ساند فيها الجانبَ العثمانيّ كل من “مصر” و”تونس” و”بريطانيا” و”فرنسا”، وانتهت بتوقيع “اتفاقية باريس” وهزيمة الروس. وقد كافأت الدولة العثمانية كلاًّ من “إنجلترا” و”فرنسا” برفع علميالدولتين على القنصليات في “القدس”، وهو ما أثار حفيظة أهالي المدينة على متصرِّفها “كامل باشا”.
وفي أثناء حكم السلطان “عبد العزيز” (١٨٦١-١٨٧٦م)، كانت مدينة “القدس” تابعة لولاية “سوريا”، لٰكنها في سنة١٨٧١ صارت مستقلة الحكم عن “سوريا” وخاضعة للباب العالي مباشرة. وقد قام السلطان عبد العزيز بعدد من الإصلاحات بمدينة “القدس”، منها: رصف الشوارع والأسواق بالبلاط، وإنشاء طريق يربط بينها وبين و”يافا”، وطريق آخر يربطها بمدينة “نابلس”، وبناء “المسجد العُمَريّ” قرب “كنيسة القيامة”.
ثم كان اعتلاء السلطان “عبد الحميد الثاني” (١٨٧٦-١٩٠٩م) عرش الدولة العثمانية،آخر خلفاء الدولة العثمانية الذين ساهموا بأدوار حقيقية في السلطنة؛ ففي عهده أُقر دستورللبلاد، وافتُتح “مجلس المبعوثان” (مجلس البرلمان) الذي مثّل فيه مدينة “القدس” أحد كبار رجالها وهو “يوسف ضياء الخالدي” باشا. ومن مآثر السلطان “عبد الحميد الثاني” رفضه هجرة اليهود إلى “فلسطين” وشراء أرض لهم فيها، ثم سماحه لهم بدخولها بغرض العبادة فقط في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. وفي رسالة بشأن رأي السلطان “عبد الحميد الثاني” في بيع “فلسطين” لليهود – بحسب ما ذُكر بملف وثائق القضية الفلسطينية: “… لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد! لأنها ليست لي، بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هٰذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذَّوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. لقد حاربَت كتيبتنا في «سورية» وفي «فلسطين»، وقُتل رجالنا الواحد بعد الآخر في «بِلِفْنة» (پِـلِيڤنا) لأن أحدًا منهم لم يرضَ بالتسليم، وفضّلوا أن يموتوا في ساحة القتال.الإمبراطورية التركية ليست لي، بل للشعب التركي، لا أستطيع أبدًا أن أعطيأحدًا أيّ جزء منها. ليحتفظ اليهود ببلايينهم. فإذا قُسِّمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على «فلسطين» دون مقابل، إنما لن تقسَّم إلا جثثنا! ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان!”.
ومن أعمالالسلطان “عبد الحميد الثاني” إنشاؤه خط السكة الحديد بين “يافا” و”القدس”، و”المستشفى البلدي” غربي “القدس”، وبرجًا عاليًا على سورها فوق “باب الخليل”، ويُذكر عنه أنه منع إدخال الهاتف في البلاد. وقد خُلع السلطان “عبد الحميد الثاني” بعد حدوث انقلاب أثارته “جمعية الإتحاد والترقي” التركية.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي