أهنئ أقباط “مِصر” والعالم بـ”عيد النيروز” الذي يحتفلون به اليوم. و”عيد النيروز” يشهد عن قوة المصريين وبسالتهم بشهادة صفحات التاريخ الإنساني! فقد ارتبط هذا العيد بأشد عصر ألمًا وعذابًا مر بتاريخ “مِصر”، من استشهاد مريع خاضه المِصريون أيام الدولة الرومانية، وبالأخص أيام حكم الإمبراطور “دِقْلِديانوس”، الذي اتخذت الكنيسة بدءه بدايةً لتقويمها القبطيّ “تقويم الشهداء”.
وعندما كانت “مِصر” تحت حكم “دِقْلِديانوس”،شهِدت أيامًا ملؤها بطش وتجبر وطغيان، حتى إن المؤرخين وصفوها: “وكانت أيامه كلها شنيعة إلى أقصى درجة!!! قتل فيها أصنافًا من الأمم!!!”. لقد شن “دِقْلِديانوس” اضطهادًا عنيفًا على المسيحيِّين في كل أنحاء مملكته لم يشهده العالم!!! وكان لمصر النصيب الأعظم من تلك الاضطهادات، وقدمت عددًا لا يُحصى من أبنائها شهداء. وقد بدأت سلسلة الاضطهادات بعدد من المنشورات الملكية جاء فيها ما ينص على تهديم الكنائس ومحوها من الوجود، وإحراق كل كتب المسيحيِّين المقدسة، وطرد كل موظفي الدولة منهم، وحرمان العبيد الرافضين ترك إيمانهم المَسيحيّ من فرص العتق. وأمر ذٰلك الطاغية الجميع بتقديم الذبائح والبخور أمام الآلهة الوثنية، وبمعاقبة كل من يخالف أوامره بأبشع أنواع العقاب والعذاب حتى الموت.
وفي مقابل تلك الأوامر الصارمة، نجد الشعب جميعه، رجاله ونساءه وشيوخه وأطفاله، يهِبّ هَبَّة رجل واحد جسور، ليقف أمام هٰذا الطغيان بثبات ورسوخ في الإيمان؛ حتى كتب المؤرخ يوسابيوس القيصريّ، الشاهد على تلك الاضطهادات: “لم تكُن النساء أقل من الرجال بسالةً في الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلٰهية؛ إذ اشتركن هن والرجال في النضال”. إن الشعب، بفئاته كافةً، لم يقبل التخلي عن إيمانه؛ وارتوت أرض “مِصر” بدمائه الطاهرة. وقد نالت المسيحيين شدائد متنوعة: منها اضطهادات أدبية من إهانة واستهزاء، وفصل من الوظائف، ومصادرة أموال وممتلكات، وفقدان حقوق المواطنة، وسلب البيوت والأمتعة، وضياع حق التقاضي أمام المحاكم؛ ومنها تعذيبات بدنية من سَجن وجَلد وحرق وإغراق وصلب وتنكيل، وغيرها من ألوان العذابات المريرة. وفي كل تلك، لم يشهد الطغاة من الشعب إلاثباتًا بل استهانة بالموت!!! الكل يتقدم إلى الموت، في بسالة وشجاعة، بإيمان راسخ أنه مجرد عبور إلى الحياة الأبدية.
وقد اختُتمت تلك الحقبة باستشهاد البابا بطرس الملقب بـ”خاتم الشهداء”، إذ قُبض عليه بأمر من الإمبراطور “مكسيميانوس” وأُودع السجن؛ وحين سمِع الشعب تجمَّع عند السجن لإنقاذ راعيهم من الموت. لٰكن البابا حرَص على حياة أبناء شعبه، فخرج من جهة أخرى بعيدة عنهم، ووصل مكان الإعدام (الذي فيه كان قد استُشهد القديس مار مرقس الرسول) حيث صلى طالبًا إلى الله إنهاء الاضطهادات، وخَتم صلاته: تقبَّل، يا الله، حياتي فداءً عن شعبك. وسمِع البابا صوتًا يقول: آمين. ثم نال الشهادة.
وهٰكذا عبّرت حياة الشهداء عن حبهم العميق لله؛ فلم يحبوا حياتهم حتى الموت من أجله – تبارك اسمه. وهنا أتذكر كلمات مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”: “كثير من الناس يُعطُون، لٰكن الذي يُعطي حياته هو أعظم من هٰؤلاء جميعًا؛ فالبعض يُعطي جزءًا من ماله، والآخر يُعطي كل ماله، لٰكن أعظمهم من يُعطي حياته بحب … ليس حب أعظم من هٰذا: أن يبذُِل أحد نفسه عن أحبائه!”.
أما كلمة “نيروز” فهي من الكلمة القبطية “نِييارُؤو” وتعني “الأنهار”، التي تحورت إلى لفظة “نيروس” في الحِقبة اليونانية التي عاشتها “مِصر”، ومنها صارت “نَيروز”. إلا أن بعض المصادر تذكر أن “نَيروز” اختصار لعبارة “نيارو إسمو روؤو” التي تعني “سبِّحوا وبارِكوا”: ويُقصد بها مبارَكة الأنهار؛ ليُصبح عيد “النيروز” هو “عيد مبارَكة الأنهار”.
وقد ارتبط التقويم القبطيّ بالتقويم المِصريّ القديم، الذي وضعه قدماء المِصريِّين اعتمادًا على دورة الشمس فقسّموا السنة إلى ١٣ شهرًا؛ ثم اتخذت الكنيسة القبطية المِصرية من أسماء شهوره أسماءً لشُهور سنتها القبطية، لتبدأ بشهر تُوت في (11/ 9) وتنتهي بشهر النَّسِيء (٦-١٠/٩) المعروف بـ”الشهر الصغير”.
كل عام وجميعكم بخير وسلام، مصلين أن يمنح الله بلادنا “مِصر” والعالم بأسره الخير والسلام والهدوء، و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي