تحدثت المقالة السابقة عن دخول مدينة “القدس” تحت الحكم البريطانيّ بعد الاستيلاء عليها؛ بعد حقبة كانت حاسمة في تاريخها إذ انتهت عَلاقتها بالدولة العثمانية تمامًا. ثم أشارت المقالة إلى دور “بريطانيا” في القضاء على قوى الشرق؛ فأرغمت “مُحمد علي” على قبول “معاهدة لندن”، سنة ١٨٤٠م، التي قلصت من صلاحياته، وفي إضعاف الإمبراطورية العثمانية .ثم كانت أن اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى؛ وانتصر فيها قوات الحلفاء وخسَِرت الدولة العثمانية المقاطعات العربية ومنها “فلسطين”. أما مدينة “القدس” فقد دخلت في مرحلة جديدة من التواصل الدوليّ، وصارت مقصدًا لعددمن اليهود في العالم؛ ويذكر “موقع القدس” عن ذٰلك: “وفي صمتٍ بعيدٍ عن الضجيج العالي في الساحة الدُّوَلية، عند نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، راح الزحف اليهوديّ نحو القدس يتزايد، حتى بلغ عددهم ثلاثين ألفًا عام ١٨٩٦م، وارتفع عام ١٩١٢م إلى تسعين ألفًا، ثم عاد إلى الانخفاض مع الشدائد التي شهِدها العالم أثناء الحرب العالمية الأولى، فوصل عدد اليهود في «القدس» إلى خمسين ألفًا، ثم عادوا إلى الزيادة من جديد فيما بعد.”.
أما عن تلك الحقبة التي عاشتها مدينة “القدس” تحت الحكم البريطانيّ، فقد بدأت – كما أُشيرَ من قبل – مع دخول الچنرال Allenby المدينة، ثم إرساله برقية إلى قادته يطلب الرأي بخصوص الأعلام التي تُرفع على مدينة “القدس” حال سقوطها في يد الحلفاء؛ ويذكر “موقع القدس”: “وقررت وزارة الحرب: أنه نظرًا إلى الطابع الفريد للمدينة، والمسائل الدبلوماسية والسياسية الصعبة العديدة التي أثيرت بصددها، فإنه يجب إبلاغ الچنرال أللِّنْبِي بوجوب عدم رفع أيّ علم في حالة احتلال قوات الحلفاء المدينة”. وقد سلَّم عمدة “القدس” للقائد العام البريطانيّ، وأُعلنت الأنباء بإيجاز إلى مجلس العُموميين. ثم استقبلت وزارة الحرب وفدًا عربيًّا مهنئًا بالنصر: “استقبلت وزارة الحرب وفدًا عربيًّا يرأسه الكونت «زغيد» يمثل الفلسطينيين والسوريين العرب (المسلمين والمسيحيين) المقيمين في «إنجلترا». وقد تلا الكونت «زغيد» رسالة تهنئة إلى حكومة صاحب الجلالة والقوات البريطانية بمناسبة الاستيلاء على «بيت المقدس»”. كذٰلك أصدرت وزارة الحرب بيانًا صحفيًّا عن تلك الزيارة؛ مما جاء فيه: “صاحب السعادة، لقد طلب مندوبو أعضاء الجاليات السورية والفلسطينية العرب المقيمين في «لندن» و«مَنشِستَر» زيارتكم اليوم، لكي يعبّروا لسعادتكم عن تهنئاتهم بمناسبة النصر والاستيلاء على «بيت المقدس»، وهم يعلنون كذٰلك عن رغبتهم في أن تنقُلوا إلى جلالة الملك وقواته تهنئاتهم القلبية المقرونة بالأمل، والتأكيد أن جيوش جلالته وكذلك الفصائل التابعة للوحدات الفرنسية والإيطالية سوف تواصل انتصاراتها وتقدمها من أجل خلاص الشعوب التي تقوم بتحريرها من استبداد الحكم التركيّ”. وهٰكذا انتقلت مدينة السلام من الحكم العثماني إلى الحكم البريطانيّ، إثر معارك عدة أدت إلى انسحاب العثمانيين نهائيًّا من “القدس” يوم 9/12/ 1917م، بعد أن حكموا المدينة أربعة قرون كاملة؛ وقد سلَّم رئيس بلدية “القدس” – آنذاك “حسين بك الحسيني” -يصحبه وفد من المقدسيين، وثيقة الاستسلام؛ ودخلت القوات البريطانية مدينة “القدس” وسيطرت عليها.
بدأت “بريطانيا” سياستها بالتمهيد إلى إقامة دولة صهيونية على أرض مدينة “القدس” ففرضت انتدابها عليها، واختارت السياسيّ البريطانيّ اليهوديّ Herbert Samuel ليكون أول مندوب سامٍلها في “فلسطين”، وهو ذو تنشئة دينية لكنه بعد دراسته الجامعية أعلن عدم انتمائه إلى أيّ دين، ومع ذٰلك لم يفقد عضويته بالمجمع اليهوديّ. وهبّ الشعب الفلسطيني وتظاهر محتجا على تلك الإجراءات السياسية البريطانية؛ ومما ذُكر في هذا الصدد أن في مارس سنة ١٩٢١م اجتمع وفد فلسطينيّ بـ”القدس” مع Winston Churchill الذي أوفدته حكومته إلى المنطقة لمراجعة السياسة البريطانية.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي