تحدثت المقالة السابقة عن تعنت الموقف السياسي البريطانيمن المطالب الفلسطينية، ومن التظلم الذي قدمه “المؤتمرالعربيّ الفلسطينيّ الثالث” إلى الحكومة البريطانية وبرلمانها، مستنكرًا تصريح Balfour. وقد شارك أبناء الوطن الفلسطيني وجمعياته كافة في إبداء استيائهم ورفضهم الانتداب البريطانيّ و”وعد بَلفور”؛ في وصف دولي له بأنه: “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”.
وفي مارس من سنة ١٩٥٢م، زار Balfour “القدس” للمشاركة في افتتاح الجامعة العبرية بها، بعد أن كان قدزار “الإسكندرية”حيث استقبلته الجالية اليهودية في لقاء استمر قرابة الساعتين؛ وقد ذكر مندوب جريدة “الأهرام” عن تلك الزيارة: “وتوجه عديد من وجهاء اليهود في المدينة (الإسكندرية)،مع لجنة صهيونية ومجموعة من الطلاب من المدارس اليهودية، إلى الميناء لاستقبال اللورد «بلفور». وفي الساعة الرابعة رست السفينة Esperia في الميناء الغربي، ثم صعِدت اللجنة الصهيونية على متن السفينة بقيادة أحد الحاخامات وغادروا بعد فترة قصيرة، حيث كانت هيئة السكك الحديد قد أعدت عربة صالون خاصة لنقل اللورد «بلفور» وحاشيته إلى القاهرة”، حيث استضافه اللورد Allenby. وقد امتلأت شوارع “القاهرة” بمظاهرات تندد بتلك الزيارة كانت أكبرها في “حديقة الأزبكية”؛ وقد تعرض المتظاهرون لمعاملة قاسية.
وتنقل إلينا جريدة “الأهرام” احتجاجات من أنحاء العالم العربيّ: “وبينما كان القطار المقل لـ«بَلفور» يتقدم نحو «فلسطين»، انهالت رسائل وتلغرافات الاحتجاجات على مكاتب جريدة «الأهرام»؛ كانت إحداها مرسلة باسم الجالية السورية في «مصر» وتخاطب «بَلفور» معلنة: نحن ندين إعلانك الجائر، ولن نتخلى عن حقوقنا المغتصبة، وسنواصل نضالنا للنهاية على أمل تحقيق طموحاتنا القومية. وكان التلغراف موقعًا مما يزيد على ٢٠ شخصًا – بينهم «شكري القوتلي» الذي سيصبح لاحقًا رئيس جمهورية «سوريا». وتلغراف آخر أرسلته الجالية الأردنية في «مصر»، مذكِّرةً «بَلفور» بأنه في طريقه إلى «البلد الذي دمر وعدُه المستهجَن حريته»، مضيفًا ﴿التلغراف) أن وصول «بَلفور» «سيَزيد من تمسك الفلسطينيين ببلدهم».”. إلا أن تلك الاحتجاجات لم يكُن لها أثر في Balfour أو ثَنْي عن وجهته السياسية!! أما مدينة “القدس”، فقد أعلن أهلها الإضرابات احتجاجًا على تلك الزيارة، ودون شك كانت حكومة الانتداب البريطانيّ بـ”القدس” قد استعدت للاضطرابات المحتملة وقت الزيارة،؛ إذ أعلن وزير الحربية البريطانيّ أن قوات من سلاح الفرسان المدرعة أُرسلت من “مِصر” إلى “فلسطين” لقمع أيّ اضطرابات؛ في الوقت الذي كان Balfour يزور المستوطنة الصهيونية Qara حيث استُقبل بحفاوة كبيرة، ثم ذهب إلى مدينة “تل أبيب” – المدينة اليهودية الجديدة – قرب “يافا” – حيث رُفعت الأعلام البريطانية والصهيونية فوق المنازل والمعاهد؛ وقد هُرع لتحيته حشود من الرجال والنساء والطلاب، حاملين على أعناقهم لافتات طُبعت عليها صورته. ثم انتقل Balfour لزيارة مستعمرة إسرائيلية أخرى. وفي تغاضٍ تام للمطالب العربية والفلسطينية أصر Balfour على تأكيد وعده بإنشاء وطن قوميّ لليهود في “فلسطين”. استمرت زيارة Balfour أسبوعين في بلد امتلأ بالاضطرابات والاحتجاجات!!!
وقد تركزت جهود الشعب الفلسطينيّ – مسلميه ومسيحييه – في محاولات لإيقاف إقامة الدولة الصهيونية، ما جعل الاحتلال البريطانيّ يحاول تدمير وَحدة الشعب بالايقاع بين العائلات الفلسطينية الكبيرة؛ وقد نجح إلى حد كبير ما أثمر نشأة أحزاب مناوئة للجنة التنفيذية العربية التي كانت تتزعم جهود الشعب الفلسطينيّ؛ وأحدث انشقاقًا في الصفوف. وفي تلك الحقبة، استغلت “بريطانيا” مندوبيها السامين بـ”القدس” لتحقيق حُلمها في إقامة وطن لليهود، ومنهم Herbert Samuelالذي أصدر قانون الهجرة سنة ١٩٢٠م، والذي أتاح لآلاف من اليهود – قرابة ١٦٥٠٠ – بالدخول إلى “فلسطين”، كما أصدر عددًا من القوانين لتمليك اليهود الأرض الفلسطينية وحصولهم على الجنسية الفلسطينية.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي