تحدثت المقالة السابقة عن اندلاع «ثورة البُراق» إثر النزاع الدائم بين المسلمين واليهود على «حائط البُراق» الذى يقدسه كلا الطرفين، فهو لدى المسلمين مرتبط بأحداث «ليلة الإسراء والمعراج»، ولدى اليهود بـ«هيكل هِيرُودُس الكبير» المبنىّ على أنقاض «هيكل الملك سليمان الحكيم». وقد ظل الحائط سبب نزاع شديد ممتد بين المسلمين واليهود أدى إلى اضطرابات وقلاقل بمدينة «القدس». وقد جاء حكم اللجنة البريطانية بتملك المسلمين للجدار الغربى وما جاوره أملًا فى تهدئة الأمور، لكن المنازعات تفاقمت إلى التقاتل الذى خلَّف مئات من القتلى والجرحى بالجانبين.
وفى سنة ١٩٣٠، ألَّفت «عُصبة الأمم» لجنة دولية للحكم فى النزاع بين المسلمين واليهود، فذُكر بمقالة بمجلة الأزهر: «شكَّلت عُصبة الأمم سنة ١٩٣٠ لجنة دولية للحكم فى النزاع بين المسلمين واليهود فى ملكية «حائط البُراق» (الجدار الغربى «للمسجد الأقصى»، ويطلق عليه اليهود «حائط المبكى»)، واستمعت اللجنة خلال اجتماعاتها إلى عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود وقتئذ، ودرست الشواهد والآثار التاريخية للحائط موضوع النزاع، وأخذت بعين الاعتبار الصلح الموقَّع عام ٦٣٢م بين الخليفة الراشد «عمر بن الخطاب» و«البطريرك صُفرونيوس» زعيم مَسيحيى «القدس»، الذى نص على أن «النصارى» – ويُطلَق عليهم «المسيحيون» فى زماننا المعاصر – اشترطوا على المسلمين ألا يسمحوا لليهود بالدخول إلى «القدس» أو العيش فيها.
وقد عرض الجانب اليهودى على اللجنة ٣٥ وثيقة ومستندًا، مقابل ٢٦ وثيقة من العرب المسلمين. وفى ديسمبر (كانون الأول) من عام ١٩٣٠ أعلنت اللجنة قراراتها، ورفعتها إلى «عُصبة الأمم» وحكومة الانتداب البريطانى، وكانت على الشكل التالى فى مجملها: «للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربى ولهم وحدهم الحق العينى فيه لكونه يؤلف جزءًا لا يتجزأ من ساحة «الحرم الشريف» التى هى من أملاك الوقف. وإن أدوات العبادة وغيرها من الأدوات التى يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط بالاتفاق بين الطرفين، لا يجوز بأى حال من الأحوال أن تُعتبر أو أن يكون من شأنها إنشاء أى حق عينى لليهود فى الحائط أو فى الرصيف المجاور له. ويُمنع اليهود من جلب المقاعد والسجاجيد والحصر والكراسى والستائر والدواب لقرب الحائط. ولا يُسمح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الحائط. ومن حق المسلمين وواجبهم تنظيف الرصيف المقابل للحائط وإصلاحه متى كان ذلك ضروريًا».
وقد سمحت «بريطانيا» بهجرة اليهود بكثافة حتى وصلت أعدادهم بـ«القدس» إلى قرابة نصف المليون مهاجر يهودى فى أقل من ثلاثين عامًا. ويذكر «موقع القدس» أن عدد السكان اليهود فى «القدس» وحدها بلغ ما يزيد عن تسعة وتسعين ألف نسمة سنة ١٩٤٦م؛ وقد صاحب تلك الزيادة المطَّردة توسع عمرانى وإنشاء مستعمرات وإعادة تخطيط لمدينة «القدس»: «فقسم «مكلين» المهندس البريطانى «القدس» أربعة أقسام: «القدس القديمة» وتقع داخل الأسوار، والمناطق المحيطة بالمدينة، و«القدس الشرقية»، و«القدس الغربية»… فزرعوا المستوطنات والمستعمرات فى أنحاء «القدس الغربية»… وفى عام ١٩٤٧م كان اليهود فى «القدس الغربية» وحدها ثمانية وثمانين ألف نسمة.
وكان العرب حينذاك لا يتجاوز عددهم هناك ألفًا وخمس مئة نسمة». كذلك عمِل البريطانيون على تغيير حدود مدينة «القدس» لتضم عددًا من الأحياء اليهودية الأخرى، فى مقابل استبعاد عدد من الأحياء العربية مثل «الطُّور» و«سِلوان» وغيرهما؛ فبلغت مساحة المدينة ما يزيد على ١٩ ألف دَونَم (الدَّونَم ألف متر مربع)، مقسمة كالآتى: ٥٪ داخل أسوار «القدس القديمة»، ٢٥٪ بحوزة اليهود، ١٧٪ للطرق والساحات العامة، والباقى فى حوزة الفلسطينيين. أما الأمور الإدارية، فكانت – كما ذُكر بمقالات سابقة – بيد المندوب السامى البريطانى الذى كان يعمل من أجل تحقيق «وعد بلفور» بإقامة وطن قومى لليهود فى «فلسطين»، واستمرت الأحوال على ذلك المنوال حتى شهِدت سنة ١٩٤٨م أحداثًا عظامًا… ولا يزال حديث «القدس» يأخذنا، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الارثوذكسي