تحدثت المقالة السابقة عن اللجنة الدولية التى تألفت سنة ١٩٣٠م للحكم فى النزاع بين المسلمين واليهود، والتى أعادت ملكية الحائط الغربى للمسلمين لكونه يؤلف جزءًا لا يتجزأ من ساحة «الحرم الشريف» التى من أملاك الوقف. وفى حقبة الحكم البريطانى لـ«فلسطين»، سمحت «بريطانيا» بهجرة اليهود بكثافة، وتغيرت حدود مدينة «القدس» لتضم أحياءً يهودية وتستبعد أخرى عربية.
أما الأمور الإدارية، فكانت بيد المندوب السامى البريطانى الذى عمِل على تحقيق «وعد بلفور» بإقامة وطن قومى لليهود فى «فلسطين».
واستمرت الأحوال على ذلك المنوال حتى شهِدت سنة ١٩٤٨م أحداثًا عظامًا: فقد بلغت الاشتباكات قمتها بين الفلسطينيين الذين عمِلوا جاهدين لأجل حماية وطنهم وحقوقهم، وبين اليهود الساعين بكل ما لديهم من إمكانات لإقامة وطن قومى لهم. ومع تلك الأحداث الدامية، كانت مدينة «القدس» دائمًا فى قلب الصراعات والاشتباكات؛ فيذكر موقع القدس: «فى شهر مارس من هذا العام، عمِل العرب على تعويق حركة وسائل النقل وخطوط المواصلات والتموين اليهودية، وسعَوا إلى قطع المياه والمُؤَن عن اليهود فى القدس، وسيطروا على مداخل المدينة من شرقها وشمالها، وسيطر اليهود فى غربها وجنوبها. استطاع المجاهدون العرب فى هذه الأثناء نسف دار الوكالة اليهودية فى «القدس».
وتأتى «معركة شُعْفاط» مارس ١٩٤٨، ففى بلدة «شُعْفاط» الفلسطينية، الواقعة الشَّمال الشرقى لمدينة «القدس»، على بعد ٥ كيلومترات إلى الشَّمال من بلدتها القديمة، اندلعت اشتباكات لمنع قوافل إمداد المستعمرات اليهودية فى «القدس»؛ فقد أصدر «ديڤيد شلتائيل»، القائد العام لقوات «الهاغاناه» فى «القدس»، أوامره بإرسال إمدادات مكونة من شاحنة وناقلة جند ومصفحتين إلى مستوطنتى «النبى يعقوب» و«عطروت» شَماليّ «القدس»؛ وكان أهل «شُعْفاط» قد أعدوا كمينًا عند مدخل القرية. فما إن مرت ناقلة الجند، حتى سُمع دوى انفجار نتيجة مرورها على لغم أرضى أدى إلى عطبها؛ وانطلقت النيران بين الجانبين. أما الشاحنة فقد حاولت تجاوز المدرعة، لكنّ الفلسطينيين أطلقوا الرَّصاص عليها وقذفوها بقنابل «المولوتوف» فاشتعلت النيران بها جزئيًّا، ومات عدد من أفرادها لعدم تمكنهم من مغادرتها. وتوالت الاشتباكات بين الطرفين، فى الوقت الذى وصلت فيه تلك الأخبار إلى «شلتائيل» فأمر بقصف القرية من جبل المشارف بقذائف الهاون طراز الثلاث بوصات.
وأسفر عن اشتباكات «معركة شُعْفاط» مصرع ١٤ مقاتلاً وإصابة ١١، فى حين لم يُذكر سوى إصابة فردين فقط من الفلسطينيين الذين تجمعوا من خمسة قرى: «حِزما»، و«عَناتا»، و«المزرعة الشرقية»، و«مزارع النوبانى»، و«تُرْمُسْعَيّا»؛ بقيادة الشيخ عبد الفتاح المزرعاوى من «المزرعة الشرقية»، ومحمد عبد الله الأسمر من «تُرْمُسْعَيّا»، وسليم حسين محمد عوض من «شعفاط».
وقد صادف أحداث تلك المعركة مرور قائد القوات البريطانية بـ«فلسطين» الچنرال «مَكميلان»، ورئيس أركان حرب الجيش الأردنى الفريق «غلوب باشا»، ومساعده العقيد أحمد صدقى الجندى، أثناء قيامهم بجولة تفتيشية على بعض وحدات الجيش الأردنى المرابطة فى «فلسطين»؛ فطلب «مَكميلان» من الفلسطينيين إيقاف إطلاق النار؛ فلم يقتلوا اليهود الأسرى والجرحى الذين كانوا قد نُقلوا إلى مدينة «القدس»، فى حين حصلوا هم على سلاح اليهود وذخيرتهم.
وتصاعد الصراع العربى الإسرائيلى على طريق «القدس»، شهرى إبريل ومايو، بأعمال دموية عنيفة، فذُكر: «وكانت أعمال اليهود القتالية تتصاعد مع الوقت، فحاولوا الاستيلاء على الطرق المؤدية إلى «القدس» وربطها بـ«تل أبيب»، لكنهم فشِلوا وارتكبوا مجازر فى عديد من القرى العربية، أشهرها (مجزرة) «دير ياسين» فى التاسع من إبريل. واشتد الصراع فى نفس هذا العام على مدينة «القدس»، فاحتل اليهود «القدس الغربية»، واحتفظ العرب بـ«القدس الشرقية»»، و… وما زال حديث «القدس» يأخذنا، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى