تحدثنا في المقالة السابقة عن الحكيم الذي لا يتسرع في الحكم علي الأشخاص أو المواقف من خلال إدراكه ومعرفته بالأمور حتي يكون حكمه دون جرح لأي إنسان، وأيضًا إدراكه بالقيمة الحقيقية لكل إنسان مهما بدت ظواهر الأمور. يقول الكتاب: “شريعة الحكيم ينبوع حياة للحَيَدان عن أشراك الموت«، فأسلوب الإنسان الحكيم ومبادئه في الحياة يؤديان دائمًا إلي الخير والنمو لكل من حوله. إنه يُدرك أهمية ما لديه وما لدي الآخرين، وأن الجميع يعمل معًا ويتكامل لخير المجتمع وسعادته. أُعجبتُ بإحدي القَصص التي كانت تحكي عن مجموعة حكيمة من البشر أدركت أهمية دور كل فرد منهم نحو الآخر فعرفوا معني السعادة، ومجموعة أخري في المقابل لم تكُن بمثل هذا المقدار من الحكمة فلم تعرف إلا الشقاء. تقول القصة إن أحد الأثرياء كان لا يؤمن أو يُدرك أهمية دور الآخرين في حياته، وكان يعتقد أنه يملك كل شيء ولا يحتاج إلي أحد. حتي حدث ذات ليلة أنه حلَم بانتقاله إلي السماء وراح يتنقل في أرجائها. وفيما هو يتجول، وجد قاعة كبيرة فدخلها، وهناك رأي عددًا كبيرًا من الناس يجلسون وأمامهم أطعمة كثيرة وشهية. ولكن الأمر الغريب؛ أنهم كلما حاولوا تناول الطعام لا يستطيعون إيصاله إلي أفواههم! حاول الرجل أن يكتشف سر عدم قدرتهم علي إطعام أنفسهم فوجد أن الذراع اليسري لكل شخص مشدودًا إلي جنبه، في حين توجد ملعقة يصل طولها إلي مترين وقد رُبطت في الذراع اليمني. وكلما حاول أحد تناول الطعام لا يستطيع توصيل الطعام إلي فمه بسبب طول الملعقة. كان هؤلاء الناس ـ علي ما لديهم من طعام كثير ـ في حالة غضب وجوع شديدين!! سأل الرجل عن هؤلاء الأشخاص، فقيل له إنهم الذين كان لهم ولم يُعطوا أو يشاركوا من ليس لهم، إنهم الأنانيون الذين يرغبون أن يكون كل شيء لهم وبهم فقط، فمع كل ما لديهم، إلا أنهم غير قادرين علي الشِّبع لأن كلًا منهم يفكر في نفسه فقط متناسيًا الآخر. خرج الرجل من هذه الغرفة ليجد مقابلها أخري، فأسرع بالدخول وهناك رأي مجموعة أخري من الناس علي ذات حال من رأهم سابقًا؛ إلا أنهم كانوا سعداء وفرحين؛ مما أدهشه! وسرعان ما أدرك الرجل سر سعادتهم. لقد وجد أن كل شخص منهم كان يملأ ملعقته بالطعام ثم يرفعها لا إلي فمه وإنما إلي فم الشخص الذي يجلس أمامه. وهكذا صار الجميع يأكلون ويشبعون ويتمتعون بكل ما لديهم. وقبل أن يغادر الرجل الغرفة قيل له: إن هؤلاء هم الذين كان لهم، وأحبوا حياة العطاء والشركة معًا، وأدركوا أن أهمية الحياة وغناها هما فيمن حولهم، لذلك استطاعوا أن يأكلوا ويشبعوا لأن كلًا منهم اهتم بغيره، وأدرك دوره، في إيثار وعدم أنانية. لذا الإنسان الحكيم يُدرك أهمية دور كل إنسان وقيمته مهما صغُر في هذه الحياة. إنه بحكمته ـ التي تري في كل شخص وكل شيء قيمته ـ يتقوَّي؛ كقول الكتاب “الحكمة تقوِّي الحكيم. إن مصدر قوة الحكيم لا فيما يملك من مال أو إمكانات، بل فيما يملك من إدراك وعمق بهما يعرف كيفية توظيف كل ما لديه لإنجاح العمل الذي يقوم به، وإسعاد من حوله. يُذكرني هذا بالشخص الذي أمسك بقطعة خشب ليُلقي بها في النار ليستدفئ. فسأله رجل عجوز أن يشتري منه هذه القطعة فتعجَّب وباعه إياها. وبدأ العجوز في استخدام سكينه ليشكِّل قطعة الخشب حتي صنع منها نايًا جميلًا عزف عليه ألحانًا عذبة؛ كثيرا ما كانت تستوقف المارة ليستمعوا ويستمتعوا بنغماتها الساحرة! حتي إن أحد المارة طلب شراء الناي بمبلغ كبير!! تُري، هل كان ذلك الشخص الذي رأي في استخدام قطعة الخشب كوقود هو في مِثل حكمة العجوز الذي رأها ألة موسيقية لها قيمتها المعنوية والمادية الغالية؟! إن الحكيم مثل قائد الأوركسترا في الحفل، الذي له الأذن التي تستطيع إدراك أهمية دور كل آلة في العمل الموسيقي، وكيف أنه حين ما تتوقف إحدي هذه الآلات يؤثر هذا في العمل كله. ففي إحدي الحفلات، وفي أثناء عزف إحدي المقطوعات الموسيقية، شعر عازف الفلوت أن دوره غير هم وأنه يقوم بعزف جزء صغير لا يلاحظه أحد. فقرر عدم المشاركة، وحين ما جاء الجزء الذي يعزفه بمشاركة الآلات الموسيقية الأخري رفع الفلوت إلي فمه، إلا أنه لم يقُم بالعزف ظانًا أنه لن يكتشف أحد غياب الفلوت وسْط أصوات الآلات الأخري. ولكن فجأة توقف قائد الفرقة الموسيقية ليسأل: أين الفلوت؟! هكذا الحكيم، يُدرك أن الحياة مقطوعة موسيقية تعزفها البشرية، وروعة ألحان هذه المقطوعة يكمن في دور كل إنسان والذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإلا تحوَّل اللحن الجميل إلي نشاذ. كما أن الحكيم ينتبه سريعًا إلي غياب أي شخص، مدركًا أن لكل إنسان دوره ومشاركته التي لا يمكن الاستغناء عنهما.