أسـبــوع الآلام
اليوم هو عيد “الشعانين” أو “أحد السعف”، وهو الأحد السابع من الصوم. والصوم الكبير أو الصوم الأربعيني المقدس يصومه المسيحيون كمثال صوم السيد المسيح أربعين نهارًا وأربعين ليلة، وينتهي بجمعة ختام الصوم ليبدأ أسبوع الآلام.
وكانت الكنيسة قديمًا تحتفل بأسبوع الآلام مرة كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث؛ هي مدة حياة السيد المسيح على الأرض في حين كان الصوم سنويًا.
وتسمية هذا الأسبوع “بأسبوع الآلام” له تطور تاريخي.
فقد أُطلق على “أسبوع الآلام”، عدة أسماء منها: “الأسبوع العظيم”، و”أسبوع الفصح” و”أسبوع البصخة”، وهو يعتبر أقدس أيام السنة؛ ففيه تزداد الأصوام والصلوات والصدقات.
نجد الإشارة إلى “أسبوع الفِصْح” في رسائل البابا أثناسيوس الرسولي الفِصْحِيَّة والمقصود بأسبوع الفصح الأيام الستة السابقة لعيد القيامة.
مع أواخر القرن السابع ظهر اسم “أسبوع الآلام الخلاصية”. ومع مرور السنين شاع تعبير “أسبوع الآلام”.
ويسمى هذا الأسبوع في الكنيسة اليونانية “الأسبوع المقدس العظيم”، وفي الكنيسة اللاتينية “الأسبوع العظيم” أو “الأسبوع المقدس”.
واسما” أسبوع البصخة” و “أسبوع الفصح، مترادفان لنفس المعنى، فكلمة “بصخة” هي كلمة آرامية، وتعني باللغة العربية “عبورًا – العبور”، و بالعبرية “الفصح – فصحًا”، وبالإنجليزية “Passover”، وهي تشير إلى ذكرى عبور موسى النبي وشعبه البحر الأحمر.
الاحتفال بأسبوع الآلام
أول من عرف الاحتفال بهذا الأسبوع العظيم كنيسة أورشليم حيث إنها المكان الذي شهِد هذه الأحداث، ومنه انتقل الاحتفال إلى أنحاء المسكونة شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا.
أمّا في مصر، فقد عُرف صوم هذا الأسبوع المقدس في القرن الثالث الميلادي سنة 329 م، واستقر سريعًا في كنيسة الإسكندرية.
ولكن اختلفت بداية أسبوع الآلام؛ ففي الخمسة القرون الأولى كان بَدء صوم الستة الأيام المقدسة يوم الإثنين، وكان صومًا مستقلاً عن الصوم الأربعيني المقدس، ثم ضُم الصومان معًا.
في القرن العاشر نجد إشارات ودلائل عن أن بداية “أسبوع الآلام” كانت من يوم السبت وليس يوم الإثنين كالتقليد الأورُشَليمي القديم، فيكون بَدء أسبوع الآلام من سبت لعازر.
ومن القرن الثالث عشر عاد التقليد القبطي لبَدء أسبوع الآلام من الإثنين.
عادات شعبية في أسبوع الآلام
ومن العادات الشعبية المصرية في أسبوع الآلام أن تُتناول بضعة أكلات معينة في هذا الأسبوع، فيوم الأربعاء يُؤكل الفَريك، والخميس يُؤكل العدس، وفي الجمعة النابت والطعمية ويُشرب الخل. ويقوم البعض بتكحيل العين يوم سبت النور وهي عادة قديمة متوارثة عبر الأجيال.
كما يستحم البعض يوم أربعاء أيوب بنبات الرعرع المعطر – وسُمِيَ بأربعاء أيوب لأنه يُقرأ فيه سفر أيوب كله. وتقول القصة الشعبية إن أيوب البار بعد أن شفاه الله من البلايا التي أصابت جسده استحم بالرعرع.
وبعض الرهبان والنساك يصومون من أحد الشعانين دون أكل حتى عيد القيامة، وبعضهم لا يأكل إلا القليل من الدُّقة بالعيش الناشف وقت المساء.
مظاهر إحتفالية في أسبوع الآلام
ولأسبوع الآلام مظاهر احتفالية خاصة في دول العالم. فمثلاً: من يوم الأربعاء حتى يوم الأحد يُمنع السلام، وذلك إشارة ليهوذا الخائن الذي باع السيد المسيح بثلاثين من الفضة، ولذلك لا يقوم الشعب بتقبيل أيدى الكهنة، كما هو معتاد.
أمّا يوم خميس العهد، فيقوم الكاهن أو الأسقف الذي يصلي بغسل أرجل الكهنة والشمامسة والشعب، وذلك إشارة إلى غسل السيد المسيح أرجل تلاميذه ليعلمهم الاتضاع.
أمّا يوم الجمعة العظيمة، في بعض دول العالم، فله مظاهر احتفالية خاصة جدًا: ففي الفلبين تُغلق أغلب المحال التِجارية، وتُوقف المبادلات التجارية والحفلات في هذا اليوم. وفي دول أمريكا الجنوبية يقوم الشبّان بتمثيل حي لآلام السيد المسيح.
في حين تُقام في أسبانيا مسيرات الجمعة العظيمة في أنحاء المملكة كافة؛ وأبرزها المسيرة التي تُقام في مدينة إشبيلية. أمّا في القدس فيُحتفل بطريق الآلام بحسب مواقعه التقليدية في المدينة القديمة بَدءًا من قلعة أنطونيا وحتى كنيسة القيامة. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يُحتفل أيضًا بحمل صليب كبير على مثال الصليب الذي حمله السيد المسيح.
أحد السعف
وتسمي الكنائس الشرقية يوم أحد السعف اسم “عيد الشعانين”، أمّا اللاتين فيُطلقون عليه اسم “عيد الأغصان”. وهو الأحد الذي يسبق عيد القيامة، وفيه تحتفل الكنيسة بدخول السيد المسيح أورُشليم راكبًا على جحش، وقد فُرشت له القُمصان واستُقبِل بسعف النخيل وأغصان الشجر وهُتافات “أوصنا لابن داود” من جماهير التلاميذ والشعب والأطفال خاصة.
وعادة فرْش الطريق أمام الزائر واستقباله بأغصان الشجر هي عادة متبعة قديمًا وهي معروفة أيضًا في مصر الفرعونية. ونحن نستخدم تعبير عندما نريد إكرام أحد الأشخاص: “نفرش لك الأرض رمل أو ورد”.
وكلمة “شعانين” مشتقة من الكلمة الآرامية “هُوْشَعْنا” أيْ “خلِّصنا” وتقابل في اليونانية “أُوصَنّا”؛ لذا كلمتا “أُوصَنّا” و “هُوْشَعْنا” مترادفتان.
تتكون كلمة “هُوْشَعْنا” من مقطعين “هُوْشَعا” يعني “خلِّص أو أَنقِذ”، و”نا”، وهو لفظ يدل على شدة الاحتياج ليُصبح المعنى: “خلِّص الآن”. وقد ذكرها داود النبي “آهِ يا رب خلص! (أوصنا)، آهِ يا رب انقذ! (أوصنا)”
تبدأ الصلوات من مساء السبت؛ وفيه يقطع المسيحيون سعف النخل المجدول في أشكال بديعة وأغصان الزيتون.
وقد بدأ موكب الشعانين أولاً في أورُشليم ومنه امتد إلى كنائس الشرق، وهو يبدأ من جبل الزيتون في حين يحمل الشعب وبخاصة الأطفال سعف النخل وأغصان الزيتون ويهتفون “أوصنا! مباركُُ الآتي باسم الرب!”، ويجولون في شوارع المدينة حتى يَصلون إلى كنيسة القيامة حيث يُقيمون الصلوات.
وعرفت روما موكب أحد الشعانين متأخرًا، في حين بدأ في إسبانيا في القرن السادس وفي فرنسا حوالَي القرن الثامن أو التاسع للميلاد.
أمّا عن الطقس القبطي الذي كان يمارَس حتى القرن الثاني عشر الميلادي، فقد كان موكب “الشعانين” يجوب أرجاء المدن والقرى ليلة هذا العيد، وكانت عادة الأقباط أن يزفوا الصليب في الشوارع بالقراءة والترتيل. وأُبطلت هذه العادة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وأصبحت مقصورة على الكنائس.
وذُكر أيضًا عن الأقباط أنهم من يوم سبت لعازر يقطعون سعف النخل وأغصانًا من الزيتون، ويعملونها زيتونة كبيرة بالصلبان، مُغرَّزَة بالشموع، مُبجلة مُعظمة، وتُحمل إلى قلاية الأب البطريرك أو الأسقف.
وفي هذا اليوم الذي نحتفل فيه بدخول السيد المسيح أورُشليم، أود أن أتحدث عن صفتين يتسم بهم هذا العيد وهما: التواضع والسلام.
أولاً: التواضع:
حينما أراد السيد المسيح أن يدخل أورُشليم كان متواضعا جدًا، فقد دخل راكبًا على جحش ولم يختر الخيل أو المَركبات ليدخل بواسطتها معِّلما إيانا التواضع. قال زكريا النبي: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورُشليم. هوذا مَلِكُكِ يأتي إليكِ. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان”.
وقد قال أحد القديسين عن التواضع: [لا يوجد أقوى من التواضع, لأنه لا شيء يمكن أن يقهره] وقال آخر: [التواضع هو أساس كل الفضائل الأخرى، والنفس الذي لا تحويه لا تجد فيها إلا مظهرًا فقط لأيَّة فضيلة أخرى].
وإن كان التواضع يعتبره البعض تقليل شأن إلا أن الله حينما يرى إنسانًا متواضعًا يرفعه، يقول الكتاب: “فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يَرفعكم في حينه”.
سأل أحد القديسين: “من الذي باع يوسف الصديق؟” فقالوا له “إخوته”. فقال “ليس إخوته الذين باعوه, لأن تواضعه هو الذي باعه. لأنه كان قادرًا أن يقول للذي اشتراه أنه أخوهم, ولكنه سكت, وباتضاعه بِيع, فرفعه الله وصار مدبرًا لمملكة مصر”.
التواضع هو أهم فضائل المؤمن وهو الذي يكسبه جميع الفضائل الأخرى. فأية صفة أو فضيلة دون التواضع تُرفض من الناس ولا يقبلونها.
ودائما الشخص المتكبر هو شخص خاسر: خاسر مَن حوله من أصدقاء وزملاء وأيضًا هو يخسر نفسه. وهو أيضًا إنسان متسرع لا يستمع لأحد.
أتذكر قصة قرأتُها عن أحد الشبان الذي كان يتحلى بسمعة طيبة وأخلاق حسنة ولكنه تورط في أحد الأيام في لعب الورق مع بعض أصحابه، واحتد حتى إنه فقد أعصابه، فأخرج مسدسه وأطلق النار على خَصمه في اللعب فقتله. فأُلقِيَ القبض عليه وسيق إلى المحكمة وحُكم عليه بالإٍعدام شنقًا.
لكن بسبب ماضيه وأخلاقه الطيبة فقد قدَّم أقرباؤه ومعارفه وأصدقاؤه عرائض استرحام كانت تحمل توقيع الكثيرين من أهل البلد والبلاد المجاورة، وقدموا هذه العرائض إلى حاكم المنطقة الذي تعاطف مع الشاب وقرر أن يعفو عنه، فكَتب أمر العفو ووضعه في جيبه ولبِس ثوب رجل دين وتوجه إلى السجن.
وحينما وصل الحاكم إلى زنزانة الشاب، نهض الشاب وقال غاضبًا: اذهب عني، لقد زارني سبعة رجال دين مثلُك حتى الآن، وأنا لستُ بحاجة إلى مزيد من التعليم والوعظ. لقد عرفت الكثير منه في البيت. فطلب منه الحاكم التروي: ولكن، أرجو أن تنتظر لحظة أيها الشاب لتستمع إلى ما سأقوله لك. ولكن الشاب صرخ: اسمع، أخرج من هنا حالاً وإلا سأدعو الحارس!. حاول الحاكم أن يُثنيه عن عزمه قائلا: لكن أيها الشاب، لدي أخبار تهمك جدًا، ألا تريد معرفتها؟ فكرر الشاب رفضه مهددًا باستدعاء الحارس، فما كان من الحاكم سوى أن مضي بقلب حزين.
وبعد لحظات وصل الحارس وأخبر الشاب أن زائره كان حاكم المدينة، وكان يحمل له العفو في جيبه، لكنه لم يقبل أن يستمع له.
قال أحدهم: “إن أول إختبار للإنسان العظيم حقًا هو اتضاعه”. فما أعظم التواضع الذي ينجي من فخاخ العدو ويجعل الشخص وديعًا محبوبًا فيرث الأرض والسماء.
ثانيًا: السلام
استقبل الشعبُ السيد المسيح في دخوله أورُشليم بالسعف وأغصان الشجر، وكان الجمهور يسبحون قائلين “سلام في السماء”. يعيد هذا المشهد إلى أذهاننا تذكر مشهد حمامة نوح التي عادت بورقة زيتون خضراء في فمها فصارت علامة للسلام.
لقد طوب السيد المسيح صانعي السلام ودعاهم أبناء الله، والإنسان الصالح يحيا في سلام مع نفسه، ومع مَنْ هُم حوله. وإذا فُقد السلام بين الناس تجده ساعيًا بكل ما يملك من جُهد وقوة وإمكانيات لإعادة هذا السلام.
والسلام يحتاج إليه كل إنسان لكي يستطيع أن يكون منتجًا وعاملاً وبنّاءً في أي موقع يشغله، وبهذا السلام يمكنه أيضًا أن يتعاون مع كل مَن حوله في تناغم عازفًا أجمل مقطوعات النجاح؛ في حين التوترات فلا تؤدي إلا إلى الإحباط والفشل وصنع المكائد.
تحضُرني قصة أخوين عاشا معًا مدة طويلة بالمحبة في مزرعتهما بالريف، يعملان معًا ويسود حياتهما التفاهم والسلام. وفجأة! في أحد الأيام حدثت مشاجرة بينهما، وكانت هي المشكلة الأولى بينهما على مدى أربعين عامًا؛ نشأ الخلاف من سوء تفاهم بسيط وازداد حتى حدث شجار وتفوّه بألفاظ مرّة وإهانات، ثم أعقب هذا أسابيع صمت وأقام كل منهما في جهة مختلفة عن الآخر.
وذات صباح، حضر إلى الأخ الأكبر رجل غريب يبحث عن عمل في المزرعة. وافق الأخ وطلب من الغريب أن يبني له جدارًا بينه وبين أخيه حتى لا يراه مرة أخرى. وافق الغريب وساعده الأخ في جمع احتياجات العمل، ثم سافر إلى المدينة لبضعة أيام لينهي أعماله.
عندما عاد إلى المزرعة، وجد أن العامل أتمّ عمله ولكنه بدلأ من أن يبني حائطًا فاصلاً علُوّه متران، بنى جسرًا رائعًا. وبينما هو مندهش شاهد الأخ الأصغر يركض نحوه من بيته قائلاً: إنّك حقًّا رائع، تبني جسرًا بعد كل ما فعلتُه بك؟ إني لمفتخر بك جدًا”، ثم عانقه. وبينما هما يتصالحان، كان الغريب يستعد للرحيل، فطلبا منه الانتظار، فأجاب: كنتُ أحب أن أبقى، لولا كثرة الجسور التي تنتظرني لأبنيها.
هكذا صانع السلام: يبني جسورًا أينما وُجد وبين كل البشر.
يقولون:” إن أقوى الأسلحة التي يمكن أن تملكها هو أن تكون صانع سلام”.
الله يبارك بلادنا في هذه الأيام المقدسة ويملأها بالسلام والمحبة.