تحدثنا في المقالة السابقة عن أمانة الإنسان في كلماته الصادقة للآخرين دون تجريح. ونستكمل الحوار عن أمانة الإنسان في حفظ الوديعة التي تُوكل إليه. الإنسان الأمين يحافظ علي ما يؤتمن عليه من أي شخص آخر، مدركًا أن مجازاة الأمانة هومن الله – جل جلاله – الذي هوأمين أمانة مطلقة وعادل. لذلك فكل من يسلك في حياته أمينًا حتمًا ستُرد إليه أمانته، ومن يخون الأمانة لن يعرف النجاح الحقيقيّ.
يقول آبراهام لِنكولِن: “تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت أوبعض الناس كل وقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.”. فإن نجح إنسان في أن يسلك بغير أمانة بعض الوقت، لن يستطيع الاستمرار في خداعه دائمًا لكل البشر. تقدم أحد التجار إلي القاضي يشكوجاره بائع الجمال؛ فقد أعطاه بضاعته ليبيعها، وقد باعها إلا أنه رفض إعادة ثمنها، وأنكر معرفته بجاره المشتكي وأنه جمَّال، وأنه إنما تاجر مر بالبلاد! حار القاضي في الأمر، وأخيرًا أمرهما بالانصراف. وما أن ابتعدا عنه قليلًا حتي صاح القاضي فيهما فجأة: “يا جمّال”! فإذا بالجمال ينظر وراءه في الحال!! وهكذا كشف كَذِبه وعدم أمانته؛ فحكم عليه برد أموال جاره والسَّجن. قد يقول البعض إن أمور الحياة ليست بمثل هذه البساطة، بل هي أكثر تعقيدًا حتي أصبح من الصعب اكتشاف خداع الآخرين وعدم أمانتهم. إلا أن الحقيقة المؤكَّدة أن غير الأمناء سيخسَِرون دائما، وإن بدا أنهم نجحوا. أعجبتني قصة عن أستاذ جامعة وطلاب أربعة لإحدي الكليات؛ اتفق هؤلاء الطلاب علي السفر والتنزه في أحد المنتجعات قُبيل الامتحانات النهائية لهم؛ معتقدين أن هذه الفترة ستساعدهم علي العودة بصفاء ذهن وتركيز كبيرين يساعدانهم في الإجابة علي أسئلة الامتحانات. وبينما هم يُقضُّون فترة استراحتهم، جذبتهم الطبيعة الخلابة؛ حتي إنهم لم يستطيعوا حضور أول امتحانات أعمال العام. فتباحثوا فيما بينهم حتي استقر رأيهم علي اختلاق عذر يقدمونه إلي أستاذ هذه المادة ليأذن لهم بتأدية الامتحان في يوم لاحق. وما أن عادوا حتي أخبروه أنه خلال عودتهم لتأدية الامتحان، انفجر أحد إطارات سيارتهم في مكان مهجور، وكان الوقت ليلًا؛ فاضطُروا إلي الانتظار حتي صباح اليوم التالي لإصلاح الإطار والعودة. وافق الأستاذ علي إعادة الامتحان لهم، وفي اليوم المحدد للامتحان طلب من كل منهم أن يجلس منفردًا في إحدي زوايا القاعة، وأعطي كل منهم ورقة احتوت علي الأسئلة التالية: أيّ إطار من إطارات السيارة الأربعة انفجر؟! في أي ساعة وقع الحادث؟! من منكم كان يقود السيارة وقت وقوع الحادث؟ ! كم كانت التكلِفة؟ ! وكشْف أمانة الإنسان أوخداعه يعتمد أولًا وأخيرًا علي الله؛ فالذكاء في كشف عدم أمانة إنسان هوهبة من الله. وفي كثير من المواقف يُعطي الله معرفة وحكمة خاصة لكشف وسائل الخداع؛ مثلما أعطي الله “دانيال” الحكمة في كشف كذب الشيخين وافترائهما علي العفيفة “سَُوسَنَّة” بأنها فعلت الشر: سأل دانيال كلًا منهما منفردًا عن المكان الذي رأي “سَُوسَنَّة” تفعل الشر فيه، ومن اختلاف إجابتيهما ظهر كذبهما وعدم أمانتهما، وحُكم عليهما بالموت.
إن الله لا يتوقف عن إظهار أمانة الأمناء وإن كثُرت التجارِب عليهم، وأيضًا عقاب غير الأمناء وإن صمت عنهم بعض الوقت ليقدم إليهم فرصة للرجوع والتَّوبة. وكم من رجال بسطاء يساعدون من حولهم يقف الله سندًا لهم حين يحاول أحد المخادعين التلاعب بهم ! لا يوجد أفضل من أمانة الإنسان في هذه الدنيا، ولا أقبح من الخيانة والكَذِب عند الله والناس. ففي جميع العصور والمواقف تُثبِت أمانة الإنسان أنها الكَنز الحقيقيّ الذي يملِكه، والباب المؤدي إلي ثقة الآخرين به وللحديث بقية ..……………………