عن الحياة نُكمل الحديث، ففي طريقنا الذي نرتاده عبر الحياة ينبغي أن تكون لنا الرؤية والمعرفة: بما يجب أن نقوم به، وبكيفية القيام به. وسأوضح ما أقصِده من خلال قصة قرأتُها عن دراسة أثارت جدلًا واسعًا في العالم كله.
فقد قام عالم النفس الأمريكيّ المشهور “فيليب زيمباردو” بتجرِبة نالت صيتًا كبيرًا أطلق عليها اسم “سِجن جامعة ستانفورد”. ففي تجرِبته قام عالم النفس بتقسيم مجموعة من طلابه إلى مجموعتين: إحداهما تقوم بلَِعِْب دَور “مسجونين”، والأخرى تؤدي دور “سجّانين”؛ ومكان تنفيذ هٰذه التجرِبة في سرداب “جامعة ستانفورد” الذي أُعد للتجرِبة بتقسيمه إلى حجرات منفصلة ليبدو سجنًا.
وقد أجرى “فيليب” التجرِبة بإتقان بأن جعل أحداثها تُحاكي الحقيقة؛ حتى إن الطلبة لاعبي دَور “المسجونين” قُبض عليهم وقُيدوا وهم في بيوتهم بأيدي الطلبة “السجّانين” المرتدين ملابس الشرَْطة! وقد كانت القاعدة الوحيدة في اللُّعبة هي أن “لا قيود” في التجرِبة بالنسبة إلى “السجّانين”؛ فلهم أن يتخذوا المواقف اللازمة بحسب ما يروقهم دون أية مساءلة من أي نوع.
إلا أن نتيجة التجرِبة اعتُبرت كارثة بكل المقاييس والأوجه، وأثارت جدلًا أخلاقيًا عريضًا في الأوساط العلمية كافة؛ فقد تحوَّل “السجّانون” تحولًا مرعبًا بشعورهم أنهم أكبر من المساءلة مهما فعلوا! وراقب عالم النفس أحداث التجرِبة عبر شاشات لمراقبة بقلق شديد؛ وهو يفاجأ بالطلبة “السجّانين” وقد صاروا يتعاملون بخشونة بل بعنف تمادى إلى قيامهم بتعذيب زملائهم “المسجونين”!! والغريب أن من عذَّب كان يُعرف عنه الهدوء والأخلاق الرفيعة والتفوق الدراسيّ وهو ما سمَح له بالالتحاق بهٰذه الجامعة العريقة!! فما كان من عالم النفس إلا وأن أمر بوقف التجرِبة فورًا مستنتجًا حقيقة صارت تحويها كل مراجع علم النفس الاجتماعيّ؛ وهي أن “السلطة المطْلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية”!
إن المساءلة أو المحاسَبة التي أقصِدها هي مجموعة المبادئ والقيم التي يضعها كل إنسان لنفسه في طريق حياته؛ ومن خلالها يعرِف كيفية الوصول إلى الأهداف التي ينشُدها.
إن كان وجود أهداف في طريق حياة الإنسان شيئًا حيويًّا ولا تنازل عنه، إلا أن أهدافًا مِن دون قيم تحدِّد وتضبُط وتصحح طريقة تحقيقها تتحول إلى كوارث!! فعلى مرتادي طريق الحياة أن يُدركوا أنه إن تركوا لأنفسهم العِنان ليفعلوا ما يُريدونه دون قواعد أو مساءلة، فحتمًا سيتغيرون سلبيًّا إلى درجة كبيرة مبتعدين عن إنسانيتهم.
إن قيمنا ومبادئنا نعيش عليها فتساعدنا على حفظ إنسانيتنا وإنسانية كل من حولنا، وتضمن لنا الترقي في سُلَّم النجاح. يقولون: “الفشل يأتي عندما ننسى المُثل والأهداف والمبادئ التي لدينا فقط”. وأيضًا من أجمل العبارات: “إن الناس الذين يهتمون بالامتيازات التي يحصُلون عليها أكثر من اهتمامهم بمبادئهم سَُِرعان ما يفقدون كليهما”. و… وعن الحياة ما زلنا نُبحر …
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ