تحدثنا في المقالة السابقة عن العدل الذي يٌعَدّ واجبًا إنسانيًا وروحيًا. ثم تحدثنا عن عدل الله في محبته ورحمته وخيراته المقدَّمة إلى كل خليقته؛ وأيضًا عدله في حكمه على البشر بحسب أعمالهم. وتحدثنا عن قصة زواج ابن أحد الأمراء الفرنسيين بابنة “كُونت فيليب”، وكيف تصادف مرور جنازة بموكب العروسين، فتأثرت العروس ووضعت زهرة جميلة من إكليلها الباهظ الثمن على النعش، وأمرت بإمرار الموكب الحزين قبل موكبها إلى الكنيسة، مما أثر في نفس شاب كان يتقدم الجنازة فبكى بكاءً مرًّا.
ومر عشرون عامًا على ذٰلك الحدث، واندلعت الثورة الفرنسية؛ وبحسب ما يذكر التاريخ أنها كانت ثورة دموية انتقمت من جميع الأمراء، وكانت كل الأحكام الصادرة عليهم هي بالموت. وجلس الحاكم الجديد على منصة الحكم يتشفى من النبلاء جميعًا باصدار أحكامه بالإعدام على كل من يقع منهم بين يديه. حتى وقف أمامه شاب وأخته وأمهما .
كان الشاب يدافع عن نفسه وأسرته بأنهم لم يرتكبوا أيّ جُرم أو ظلم ضد أي إنسان. ولٰكن هيهات؛ فقد صدر الحكم بالإعدام، وكان موعد تنفيذ الحكم التاسعة مساءً. وفي الثامنة مساءً، ذهب الحارس ـ الذي كان يعرف هٰذه الأسرة من عشرين عامًا حين ما وضعت الأم يوم زفافها زهرة جميلة على نعش شقيقته ـ ليقتادهم إلى الإعدام! ولٰكنه سلَّمها رسالة وطلب عدم قراءتها إلا بعد التاسعة!! اندهشت السيدة جدًا؛ إذ كيف ستقرأها بعد موعد تنفيذ الحكم.
وزادت دهشتها حين ما سار بهم الحارس إلى طريق يصل إلى ميناء منها يُبحر مركب إلى إنجلترا، ثم أركبهم المركب وطلب إلى قائدها الإسراع بالمغادرة. وفي التاسعة وهم في عرض البحر، فتحت السيدة الرسالة لتجد هٰذه الكلمات: من عشرين سنة، في يوم زواجك، وضعتِ زهرة جميلة من إكليلكِ على نعش شقيقتي الوحيدة. ولا يمكنني أن أنسى ما تركته هٰذه الزهرة من أثر عميق لا يُمحى ما حيِِِيتُ. لذا أنقذتكِ من الموت، أنتِ وابنكِ وابنتكِ، فهٰذا دَين الرقة والإنسانية عليّ.
إن كان هٰذا الحارس لم ينسَ عمل محبة من عشرين سنة، فهل ينسى الله أعمال البشر؟! إنه يجازي كل واحد بحسب أعماله؛ إن كانت خيرًا أو شرًا. ومن ثَم فعلى كل إنسان أن يسعى لأنْ يكون عادلًا في أقواله وأحكامه؛ فما سيزرعه حتمًا سيحصده.
إن الله عادل وعدله مطلَق؛ فليس عنده ظلم ولا محاباة؛ ولذٰلك أمر بالعدل بين البشر. وهٰذا ما نادت به الأديان: فنجد في القرآن: ﴿إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ سورة النساء آية 58، كما نجد في الحديث يقول: (يا عِبادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ عَلى نَفسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمُ مُحَرَّمًا فَلا تَظالَمُوا …). وفي الكتاب المقدس: “.. وَالْآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمُ. احْذَرُوا وَافْعَلُوا. لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ إِلٰهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ ارْتِشَاءٌ».” (سفر أخبار الأيام الثاني 7 آية 19)، “وَأَمَرْتُ قُضَاتَكُمْ فِي ذٰلِكَ الْوَقْتِ قَائِلاً: اسْمَعُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ وَاقْضُوا بِالْحَقِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَنَزِيلِهِ. لاَ تَنْظُرُوا إِلَى الْوُجُوهِ فِي الْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَالْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ ِللهِ.” (سفر التثنية 1 الآيتان 16، 17).
وقد يكون الإنسان عادلًا في أحكامه، ولٰكنْ مُشادة واحدة قد تُخرجه عن صوابه فتُولِّد عداء تجاه شخص؛ ما قد يدفعه إلى ظلمه. إلا أن هٰذا مرفوض من الأديان؛ فإن كان بينك وبين أحد خلاف أو عداوة ولا تستطيع بَعدُ أن تُزيلها، فعلى الأقل لا تزيدها سوءًا بإطاعة ما بك من ضغينة وظلمك إياه، بل كما يقول الكتاب: “إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ.” سفر رومية 12 آية 20، فإن كان الكتاب يدعو إلى عمل الخير مع الأعداء فهل من نختلف معهم نظلمهم؟! بل كما يذكر القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ سورة المائدة آية 8. فعداوة قوم لا تحُثّ الإنسان أو تُحَمِّله على ظلمهم.
وينبغي للإنسان أن يكون عادلًا عن حق؛ لا يكون له صورة العدل وفي داخله مشاعر ظلم نحو البشر؛ كما في أبيات الشعر التي ذكرها لي صديق فاضل هو أخي الأستاذ الدكتور محمود عزب مستشار شيخ الأزهر مما حفظ من الشاعر جبران خليل جبران:
وَالعَدلُ في الأَرضِ يُبكي الجنَّ لَو سَمِعوا
بِهِ وَيستَضحكُ الأَمواتِ لَو نَظَروا
فَالسَِّــــــــــجنُ وَالمَوتُ لِلجانينَ إِن صَغُرُوا
وَالمَجدُ وَالفَخرُ وَالإِثراءُ إِن كبِرُوا
فَســــــــــــــارقُ الزَّهرِ مَذمومٌ وَمُحتَقَرٌ
وَسارِقُ الحَقلِ يُدعى الباسِلُ الخطِرُ
وَقاتلُ الجسمِ مَقتولٌ بِفَعلَتِـــهِ
وَقاتلُ الرُّوحِِ لا تَدري بِهِ البَشَـــــــــــرُ
و …
ونستكمل الحديث الأسبوع القادم.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي