من الاحتفال بجائزة عُلا غبور للعلوم الإنسانية والثقافية التي يقدمها المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ، تذكرتُ هٰذه الكلمات: “الناس كالنوافذ المصنوعة من الزجاج الملون الذي يتلألأ في النهار، وعندما يحِلّ الظلام فإن جماله الحقيقيّ يظهر من الضوء المنبعث من الداخل”. فتساءلتُ: ما الذي يجعل إنسانا يَشِعّ جمالًا أكثر مما لآخر؟ وما الذي يصنع العظماء، ويكتب أسماءهم في قلوب البشر قبل صفحات التاريخ؟ لا شك أن السر هو في واحدة من أهم الصفات التي متى تحلَّى بها البشر خُلِّدوا؛ فيستمر ذكرهم في الأرض مهما طال رحيلهم عنا .. لماذا؟ ببساطة: لأنهم كانوا من أهل “الكرم”.
الكرم هو العطاء بسخاء، وحين يُوصف شخص ما بأنه كريم فلأنه يُعطي عن طِيب خاطر دون انتظار مقابل، يُعطي من حوله بكل محبة وفرح؛ فسعادته نابعة من إسعاد من حوله.
والكرم هو صفة من صفات الله جل جلاله؛ فهو “يُعطي الجميع بسخاء ولا يُعَيِّر”. والله هو مصدر كل الخيرات التي يعيش فيها الإنسان؛ فهو الذي يُشرق شمسه على الأبرار والأشرار، ويُرسل مطره على كل المسكونة، وهو الذي يرعى خليقته ويهبها كل حاجاتها دون أن تسأل هي. يقول الكتاب: “اُنظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصُد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها.”، “أليست خمسة عصافير تباع بفَلسين، و واحد منها ليس منسيًّا أمام الله؟”. ومن الله تعلَّم الإنسان الكرم والعطاء في حياته، فهو يأخذ من عطايا الله ويٌقدم لكل إنسان.
قرأتُ قصة تقول إن أحد الخلفاء ـ كان محبًا للشعر والشعراء ـ قد فتح مجلسًا للشعراء في قصره ليسمع شعرهم، وكانوا يقفون خارج القصر حتى يسمح لهم بالدخول. وفي إحدى المرات، مر رجل من أمام القصر ورأى الشعراء يقفون ويستعدون للدخول فوقف بينهم، فسأله الحراس: هل أنت شاعر؟ فقال: نعم. فسمَحوا له بالدخول حتى وصل إلى مجلس الخليفة. وأخذ الشعراء يُلقون قصائدهم الواحدة تَلو الأخرى حتى جاء دوره. ولٰكنه ظل صامتًا، فلما طلب منه أن يُلقي أشعاره سكت قليلًا، ثم قال إنه لم يكن يُريد شيئًا سوى أن يدخل ليسلَِّم على الخليفة! ضحك الخليفة مرحبًا به، ثم أعطاه بعض النقود. فرِح الرجل، إلا أنه عندما خرج من القصر أخذ ينثُِر الأموال على المارين أمام القصر، فتجمع الناس. وعندما شاهده حرس الخليفة قبضوا عليه، وأخبروا الخليفة، فاستحضره. قال له الخليفة: أنا أكرمتك وأعطيتك مالًا؛ مع أنك لم تُسمعني شعرًا، أفتأخذ أنت المال وتُلقيه في الطريق للناس؟! فألقى الرجل على مسامع الخليفة بيتًا من أجمل أبيات الشعر في الكرم والعطاء:
يَجُـــودُ عَلَيــــْنا الْأَكْرَمُـــونُ بِجُودِهِمْ وَنَحْنُ مِنْ جُودِ الْأَكْرَمِـــيـنَ نَــجُودُ
والإنسان الكريم المعطاء ليس كريمًا في ماله فقط بل في كل مجالات الحياة التي سنتحدث عنها تباعًا.
وموضوع الكرم مثار حديث كثيرين؛ فيقول جُبران خليل جُبران: [الكرم هو أن تعطي أكثر مما تستطيع]، ويقول أيضًا: [ليس من الكرم أن تعطيني ما أحتاجه أكثر منك، وإنما الكرم أن تعطيني ما تحتاجه أكثر مني]، فهو ليس مجرد أن يعطي الإنسان من فائضه بل يمتد أيضًا إلى إعوازه وحاجاته. إنه تدريب للنفس الإنسانية على المحبة والتواضع؛ ففي العطاء أنا أضع الآخرين في اعتباري، وكلما سار الإنسان في طريق العطاء بسخاء عرَف السعادة بالأكثر، فيزداد العطاء لديه حتى تصير حياته سلسلة لا نهائية من الجود والكرم.
وقيل: [الكرم الحقيقيّ هو أن تقوم بشيء لطيف لشخص لن يكتشف ذٰلك أبدًا]. فما أنبل القلب الذي يهب مَن حوله السعادة دون انتظار كرامة أو مكافأة أو مديح! إنه يقدم لأنه تعلَّم الطريق إلى السعادة الحقيقية.
ومن الكرم أن يكون للكرم أحاديث وبقية …!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ