تحدثنا عن كرم الإنسان في التقديم المادي للآخرين، وأن الكرم يُرد إلي صاحبه يومًا ما.
يقول ونستون تشرشل: “إننا نصنع معيشتنا بما نحصُل عليه من نقود، ولكننا نصنع حياة بما نقدمه”. فإن كان الكرم الماديّ مهما ؛ إذ يُعبر عن صلاح الإنسان ومحبته في مساعدة وتعضيد المحتاجين، إلا أنه توجد أنواع أخري من الكرم يمكن أن تقدَّم. فالكريم يعكس كرم أخلاقه كذلك؛ علي كل من حوله في معاملته الحسنة وسلوكه الملآن حبًّا.
كريم الخلق شخص متواضع يقدم الآخرين عليه؛ ومثال ذلك إبراهيم خليل الله مع ابن أخيه لُوط. فعندما حدثت مُشادَّة بين رعاة إبراهيم ورعاة لُوط لأن الأرض التي كانا يسكنان فيها لم تتسع لأملاكهما الكثيرة معًا، ما كان من إبراهيم ـ وهو كبير العائلة ـ إلا أن ترك للوط الحرية في أن يختار هو أولًا المكان الذي يريده هو لسكناه، معطيًا إياه الأولوية عن نفسه. إن خليل الله إبراهيم كان كريمًا في كل أمور حياته، في أمواله التي كان يضيِّف بها الغرباء، وفي أخلاقه التي يعامل بها حتي من هم أصغر منه سنًّا أو مقامًا.
ويَظهر أيضًا كرم الأخلاق في التسامح والمغفرة إزاء من يُسيئون إلي الكريم؛ ومثال ذلك يوسُِف الصدِّيق الذي كان كريمًا في أخلاقه مع كل من تعامل وإياه. كان يوسُِف كريم الخلق حين لم يدافع عن نفسه أمام امرأة سيده التي اتهمته ظلمًا، بل لم يُرِد إشهارها واحتمل السَِّجن والعقاب علي ذنب لم يقترفه. فكان جزاء الله أن رفعه مكانةً وسلطةً ليكون الرجل الثاني بعد فِرعَون! منقذًا أسرته وشعب مِصر جميعه، بل والعالم أجمع من مجاعة عظيمة!!
ولم يتوقف كرم أخلاق يوسُِف الصدِّيق عند هذا الحد، بل إنه عندما التقي إخوته الذين كانوا يُريدون قتله وباعوه عبدًا، لم ينتقم منهم بل أكرمهم وسامحهم غافرًا لهم ما فعلوه، مع أنه كان آنذاك يملك سلطانًا عظيمًا يمكنه من الانتقام. وبعد موت أبيهم خافوا أن ينتقم منهم، إلا أنه طمأنهم وأوضح لهم أن ما مر به وحضوره إلي مِصر هو بترتيب وتدبير من الله لكي يُنقذهم والبلاد من الفناء.
إن كرم الإنسان في تعاملاته إزاء الآخرين حتمًا يرفع من شأنه وقدره، ويَُكسِبه احترامًا فوق احترام، وتقديرًا فوق تقدير، ومن الكل. إنه أحد أسرار عظمة الإنسان الذي يطبع في النفوس صورة للرقي والتحضر والنُبل تؤدي إلي التأثير في حياتهم وتغييرها. تحكي إحدي القصص أنه في عام 1920م، أقامت نقابة الأطباء في إنجلترا حفل تخريج دفعة جديدة من الأطباء. وقد حضر الحفل رئيس الوزراء البريطانيّ آنذاك “لويد چورچ”، وطفِق نقيب الأطباء يقدم النصائح للخريجين؛ فروي هذه القصة: “في ليلة عاصفة، طرقَت بابي سيدة عجوز تطلب المساعدة في إنقاذ طفلها الذي كان في حالة خطيرة جدًا. فأسرعتُ غير عابئ بالعاصفة والبرد والأمطار إلي حيث كانت تعيش في إحدي الضواحي في منزل مكوَّن من غرفة صغيرة! كان طفلها يئنّ ويتألم بشدة. وبعد أن قمتُ بواجبي، قدَّمَت إليّ الأم كيسًا صغيرًا به نقود، فرفضتُ. وظللتُ أتعهد الطفل حتي شفائه”. وما كاد نقيب الأطباء ينتهي من كلامه، حتي أسرع رئيس الوزراء متجهًا إلي منصة الخطابة قائلًا: إنني أبحث عنك يا سيدي منذ عشرين عامًا! فأنا ذلك الطفل الذي تحدثتَ عنه الآن!! وقد كانت وصية أمي الوحيدة لي هي أن أجدك لأكافئك علي إحسانك بنا في فقرنا. لقد كان هذا الطبيب مثالا لكرم الأخلاق في حياة الآخرين.
وربما لا يغير كرم الأخلاق في حياة الآخرين فقط بل في حياة الشخص نفسه الكريم الخلق. فتقول القصة إن … وللحديث بقية …
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ