تحمل كل صفحة من صفحات التاريخ آثارًا، منها ما ترك في الضمير الإنسانيّ ومضات مضيئة، ومنها ما غَشِيَت بليل طويل انتفضت فيه الإنسانية واقشعرت! وتُعد كل الجرائم التي ترتكب ضد الإنسان طريقـًا أخرى للتِّيه عن المسار الإنسانيّ الذي خلقنا الله من أجله، وتعديـًا صارخـًا لكل القيم التي حملتها الأديان والقيم الإنسانية. ومن أصعب صفحات التاريخ، هي تلك التي خُطت فيها قصة ما تعرض له الأرمن من إبادة وتصفية ونزوح من الأرض التي اقتنَوها من فجر التاريخ. لقد أدت تلك الأفعال الأثيمة إلى قتل قُرابة المليون ونصف المليون أرمنيّ وتشتييتهم في بقاع الأرض. إلا أن الغريب في الأمر، أن الأرمن لم يَفنَوا كما خُطِّط لهم، وإنما عبروا جسر الموت ليصبحوا الآن قُرابة العشرة ملايين نسَمة تعيش داخل “أرمينيا” وخارجها. إن ما يمر بنا من انحناءات في صفحات التاريخ الإنسانيّ يجب أن تكون دروسـًا يستقي منها الإنسان القيم والمبادئ التي عليه أن يعيش بها في حياته. أمّا عن عدم استيعاب درس التاريخ، فلن يُلقي إلا بمزيد من القسوة والظلام على حياة الإنسان؛ فالظلم لا يؤدي إلا إلى ظلم آخر، والموت لا يُنتج إلا مزيدًا من الموت. وهذا ما أقره التاريخ فالمذبحة الأرمينية بدأت في عام ١٩١٥م، ولم يكُن لها نتيجة إزاء الصمت إلا أنها تكررت عام ١٩٣٩م حين تساءل “هتلر” في خطاب له:“بالرغم من كل ما حدث، من يتحدث اليوم عن إفناء الأرمن؟”؛ وكانت النتيجة مذابح جديدة “الهولوكوست”. وهٰكذا حين يُنسى التاريخ، تُفتح الطرق لمزيد من الفظائع. وإن كانت الصفحات التي حملت مأساة الشعب الأرمينيّ قاسية، لٰكنها ما تزال تحمل بعضـًا من ومضات ضوء من هنا وهناك، تؤكد أن للإنسان قلبـًا ما يزال ينبِض ويعطف ويمُد يد العون عندما تحِل كارثة بأخيه الإنسان. ففي بيان صادر من شريف مكة “الحسين بن عليّ” عام ١٩١٧م، كتب يقول:“… وإن المرغوب بتحري المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم، وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمينية، تساعدونهم على كل أمورهم وتحافظون عليهم كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم وتسهلون كل ما يحتاجون إليه …”. كذٰلك أرسل البابا “بنديكت الخامس عشَر” (١٩١٤-١٩٢٢م) رسالة، بتاريخ ١٠/٩/١٩١٥م، إلى السلطان العثمانيّ “مُحمد الخامس”، جاء في بعض منها:“… لقد رأى الشعب الأرمينيّ الكثيرين من أبنائه وهم يرسَلون إلى الموت، وكثيرين غيرهم يُلقَى بهم في السجون أو يساقون إلى المنفى، منهم الكثير من رجال الدين وحتى بعض الأساقفة. ونسمع الآن أن جميع سكان القرى والمدن يُجبَرون على ترك ديارهم ليُنقَلوا، بعد تحمل الألم والمعاناة الشديدتين، إلى مواقع اعتقال نائية، حيث يعانون، إلى جانب أقسى أنواع الألم…”. وقد عبّر “هنري مورجنتاو” سفير الولايات المتحدة في الإمبراطورية العثمانية (١٩١٣-١٩١٦م):“… إنني واثق بأن تاريخ الجنس البشريّ بأكمله لا يتضمن حدثـًا مرعبـًا كهٰذا …”. إن المبادئ في الحياة هي ما تمنح الإنسان المعنى الحقيقيّ لها؛ ففيها يعرِف الشخص أن يسلُك بإنسانية تجاه الآخر؛ وبها يُصنع له مكان رَحْب في ذاكرة العالم وضميره الإنسانيّ. وكما قيل:“أصحاب المبادئ يعيشون مئات السنين”؛ فهم يؤثّرون في الحياة وفي الآخرين بأعمالهم، دون كلمات أو صخَب وضجيج. كُن إنسانـًا في مبادئك؛ فقد خلقنا الله جميعـًا كي نشعر بمن حولنا. إن الشعور بالآخرين لا يمتلكه إلا أنقياء القلوب، ولا يدرِك قيمته إلا من تعرض للألم.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ