تحدثنا في المقالة السابقة عن “التَّرك” و”التخلي” في حياة الإنسان: فأشرت إلى المعنى اللُّغويّ، ثم تحدثت عن بعض أنواع من التخلي الإيجابيّ المرغوبة في الحياة، مثل التخلي عن الشر والخطيئة، وترك الصفات السلبية والعادات الضارة، وترك أصدقاء السوء الذين يجذبون نحو التخلي عن المحبة والإنسانية الحقة. وفي المقابل، نرى أن أنواعًا أخرى من التخليات في حياة الإنسان تؤثر سلبًا في حياته، وتُفقده كثيرًا من المبادئ والقيم، ومن أهمها، بل أهم الخطوط الفاصلة بين الحياة والموت وأحَطّها: ترْك الإنسان لله.
ماذا لو ترَك الإنسان الله؟! سؤال تتباين إجاباته وَفق المعتقَد الذي يتبعه كل إنسان؛ فقد اتسم العصر الذي نحياه بصراع شديد بين مجموعات متباينة من البشر بشأن “وُجود الله”: فهناك من يرى أن الابتعاد عن الله موت، وأيضًا هناك فِرَق انتشرت هٰذه الأيام ترى أنه لن يُضير الإنسان شيئًا إذ ترفض وُجود الله، كما نادى الفيلسوف الألماني “فورباخ”: أن الإنسان هو مَن خلق الله وليس الله هو مَن خلق الإنسان!! إلا أنني سأتحدث عن أولٰئك الذين يؤمنون بوُجود الله.
إنّ ترك الإنسان لله هو انفصاله عن مصدر الحياة؛ فالله هو الحياة ذاتها، وواهبها، ومحاولة أيّ شخص أن يحيا بعيدًا عنه تُسرع بخَطواته نحو الموت والهاوية. ويجب أن يُدرِك كل إنسان أن الله ـ تبارك اسمه ـ وهبَه الحرية ليختار الطريق التي يرغب السير فيها: “قد جعلتُ قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختَرِ الحياة لكي تحيا أنت ونسلُك …”. وترْك الإنسان لله لا يعني فقط عدم إيمانه بوُجود الله، وإنما يشمل إصرار هٰذا الشخص على السير في طريق الشر والخطيئة دون تراجع.
وفي ظل اضطرابات العالم وتحدياته، يزداد بحث الإنسان وسعيه عن مشاعر الأمان، وتزداد الهُوة في أعماقه. ومن يترك الله هو كمَنْ يُلقي بنفسه وسْط أمواج الحياة المتلاطمة وهو لا يعرف السباحة! فإذ هي تجذبه بتياراتها إلى دائرة القلق والتوتر والضياع، في حين أن في ظل الحياة مع الله يتمتع الإنسان بالهُدوء والسلام والراحة إذ يُدرِك أنه محفوظ، وأنه موضوع عناية الله كليّ القدرة.
أيضًا ترْك الإنسان لله هو ابتعاد عن السعادة الحقيقية التي يجدها ويتمتع بها في ظل سيره في وصايا الله، التي هي الخير والرحمة والترفق والمحبة، وغيرها من الفضائل التي تعزز قيمة الإنسان والإنسانية في الحياة. فذاك الذي تعلم أن يرسُِم الابتسامة على الأوجه الحزينة، ويزرع الفرحة في القلوب البائسة، ويهب الأمل للنفوس اليائسة، لن يعرِف إلا السعادة التي لا تهبها كُنوز العالم بأسره. ببساطة شديدة: ترك الله هو سر شقاء الإنسان.
إلا أن الحديث عن عظمة الحياة مع الله أمر لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه، وإن عبّرت عن بعض منه، فهي لن تقدم لك إلا بعض أفكار؛ فمهما تحدثنا عنها فلن تُدرك أعماقها إلا حين تحياها أنت. إن الحديث عن السلام أو الاطمئنان أو السعادة لا يجعلك تشعر بها في حياتك، بل يجب أن تعيش تلك المشاعر حتى تُدرِك عظمتها وتتمتع بجمالها.
وإن أردت أن تُدرك أأنت حقُا مع الله أم تركتَه، فسل نفسك أين أنت من العدل، والأمانة، والمحبة، والرحمة، والعطاء؟ أين أنت من الإنسان أيها الإنسان؟!
وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ