“معلِّم الأجيال”، “الذهبيّ الفم”، “بابا العرب”: كلمات حاولَت أن تعبِّر عن بعض من ملامح شخصية المتنيح “البابا شنوده الثالث”، البطريرك السابع عشَر بعد المئة في باباوات الكرازة المَرقسية، الذي احتفلنا بذكرى رحيله عنا في السابع عشَر من مارس. لم يُدرِك أحد عندما وُلد الطفل “نظير جيد”، في قرية “سلام” بمحافظة “أسيوط”، في الثالث من أُغسطس عام ١٩٢٣م، الذي تُوُفِّيت والدته بعد أيام قليلة من ولادته، أنه سوف يكون أسقفًا للتعليم، ثم بطريركًا على كرسيّ “مار مرقس الرسول”. فمِن قرية “سلام” إلى “دمنهور”، ثم “بنها”، ليستقر أخيرًا في “القاهرة”. إنها رحلة كان يرافقه فيها صديق عمره: “الكتاب”! فانفتحت أمامه أبواب الفكر والثقافة. إلا أن الشِّعر هو أكثر ما استهواه وأبدع فيه. درس في “كلية الآداب” قسم “التاريخ”، ثم “الكلية الاكليريكية” (اللاهوتية)، وتطوع في الجيش ليحقق دائمًا تميزًا في كل عمل أُسند إليه. إلى أن بدأت حياة الرهبنة تجتذبه من العالم إلى صحرائها؛ فصار راهبًا في “دير السريان” عام ١٩٥٤م بِاسم الراهب “أنطونيوس السريانيّ”؛ لينطلق من روابط العالم في عَلاقة حب بالله. في ٣٠/٩/١٩٦٢م اختير وسيمَ أسقفًا للتعليم بيد “القديس البابا كيرِلس السادس” بِاسم “أنبا شنوده”. ثم اعتلى الكرسيّ المَرقسيّ في ١٤/١١/١٩٧١م، ليخدُِم شعبه ما يزيد عن أربعين عامًا.
مبادئ في حياة “البابا شنوده الثالث” تميزت حياة “البابا شنوده الثالث” بكثير من المبادئ التي سلك بها قبل أن يقدمها في تعاليمه؛ واليوم أختار منها “محبته” و”احتماله” لأتحدث باختصار عنهما.
المحبة “إن وصلتَ إلى المحبة، تكون قد وصلتَ إلى الله لأن الله محبة.”؛ كان هٰذا هو الطريق الملوكيّ الذي سار على آثاره فأحب الله، والآخرين، والوطن. لقد ملأت محبة الله حياته، ورغِب في أن يكرِّس الحياة له، فترك العالم، غير راغب في شيء، مشتاقًا إلى حياة الهُدوء والسلام والوَحدة مع الله. ومن تلك المحبة المقدسة انطلقت محبته للآخرين، مهتمًا براحة رعيته وإسعادهم، وإن كان ذٰلك على حساب راحته هو، فكان دائم القول: “إن لم تستطِع أن تحمل عن الناس متاعبهم، فعلى الأقل لا تكُن سببًا في أتعابهم.”. وهٰكذا كان يُسرع بإراحة كل نفس قلقة ومتعَبة ومتألمة تلجأ إليه وإسعادها، فجذب إليه كل من عرَفه. وصارت المحبة نبع لكثير من الفضائل التي تحلَّى بها مثل: الحنان، والعطف، والتشجيع، والاهتمام، والرعاية. أمّا عن “مِصر”، فلم تغِب شمس محبتها عن قلب “البابا شنوده الثالث” وفكره؛ فكانت وطنًا لا ينفصل عنه، يحمله في وِجدانه أينما ذهب، فكما قال: “«مِصر» هي بلدنا، وهي أمنا، وكل ما يمَسها يمَسنا … كل نقطة في جسدنا تؤمن بـ«مِصر» وبالمواطَنة المِصرية.”. وهٰكذا عاش حياته بالحب، وعلَّم به قائلاً: “ازرع الحب في الأرض، تصبح الأرض سماءً. انزِع الحب من الأرض، تصبح الأرض قبرًا”.
الاحتمال لم تكُن حياة “البابا شنوده الثالث” بالحياة السهلة الميسرة، بل احتمل منذ طفولته ظروفًا كثيرة اجتازها، بل أظهر تشددًا وجلَدًا فحقق إنجازات كثيرة لم يكُن لكثيرين في مثل عمره أن يحققوها! فاحتل الصدارة في دراسته، وفي أثناء تطوعه في الجيش. واحتمل حياة التقشف والزهد والوَحدة من أجل حبه لله، وأيضًا احتمل آلام المرض بفرح، وكان كثيرًا ما يردد: “احتمال الضيقة فضيلة كبيرة، وأكبر منها الفرح في الضيقة.”! فتأْسِرك دائمًا ملامح وجهه البشوش التي تختفي وراءها آلام لا يدركها أحد، وتُسعدك كلماته المرحة التي تنتزع منك ابتسامتك وضحكاتك؛ وهٰكذا كان رمزًا للإنسانية الحقيقية في رحلة الحياة.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ