تحدثنا في المقالة السابقة عن فترة الحكم الروماني والقياصرة من عام 14م وحتى 68م ـ أي قرابة نصف قرن ـ حكم خلالها ثلاثة أباطرة عاصر أولهم “طيباريوس قيصر” الذي قضت مِصر أوقاتًا عصيبة في فترة حكمه؛ حيث ولَّى عليها أحد الولاة الظالمين. ثم تولى “كاليجولا قيصر” بعده الذي بدأ حسنًا إلا أنه انقلب إلى إنسان قاتل ظالم ودموي، وكان واليه في مِصر على شاكلته. وقد استمرت الفتن في مِصر في ظل حكم مَن خلَفه “كلوديوس الأول” قيصر روما. أمّا “نيرون قيصر” فقد أظهر اضطهادًا شديدًا للمسيحيين؛ فقد كان شخصًا دمويًا إلى حد بعيد حتى إنه قتل أخاه، وأمه، وزوجتيه! إلا أن الحاكم الذي ولّاه على مِصر أدار شؤون البلاد على أفضل وجه.
عام الأربعة أباطرة 68م – 69م
شهِد عام 68/69م في روما حكم أربعة أباطرة حتى أنه لُقب بـ “عام الأربعة الأباطرة”.
أ. جلبا قيصر
استلم أولًا السلطة وكان من أحد عائلات إيطاليا الشهيرة، والذي قام بتنصيبه على عرش روما هم الجنود الرومان. إلا أن بخله الشديد ـ مع الجنود خاصة ـ أدى إلى قتله.
ب. أتونو قيصر
أعقب “جلبا قيصر”، وكان قد نصَّبه على روما أمراء العساكر الرومان. وما أن سمِع بأمره الجنود الرومان في ألمانيا حتى نصَّبوا قائدهم “فيتليوس” قيصرًا على روما. فأخذ الفريقان يتقاتلان تقاتلًا شديدًا حتى تغلب “فيتليوس” على “أتونو” وجماعته، ولم يحتمل “أتونو” الهزيمة فقتل نفسه بعد أن حكم ثلاثة أشهر. وكان قد وضع حاكمًا يهوديًا لحكم مِصر.
ج. فيتليوس قيصر
كان “فيتليوس قيصر” نحيلًا إلا أنه لم يهتم في فترة ملكه إلا بشيء واحد: الطعام! وقد ترك شؤون المملكة حتى قام عليه الرعية وكبار رجال الإمبراطورية وأرادوا تولية أحد مشاهير القواد وهو “فسبسيان”. وحين ما علِم فيتليوس أرسل في قتاله. وهٰكذا استمر القتال بينهما حتى غلِب “فسبسيان” ومات “فيتليوس قيصر” بضرب عنقه بحد السيف. وبذٰلك يكون عام 68/69م قد مر بأربعة أباطرة رومان. أمّا حكم “فسبسيان” فيكون قد بدأ في العام نفسه؛ إلا أنه استمر عشْر سنوات.
د. فسبسيان قيصر (69م – 79م)
تعرضت الدولة الرومانية في العصور الأخيرة للضعف والانحدار؛ حتى إن العديد من الولايات التابعة لها قامت بإثارة الفتن وإعلان العصيان راغبةً في الاستقلال؛ فكادت الدولة الرومانية أن تتمزق. وقامت عائلتان في روما اشتُهرتا بالقوة: عائلة “الفلوية”، وعائلة “الأنطونونية” بمحاولات إنقاذ الإمبراطورية من الانهيار.
كان “فسبسيان” رأس العائلة الفلوية، وقد اشتُهر بالبسالة والنضال والتميز العسكري. إلا أنه عندما صار قيصرًا على روما ضاعف من جمع الأموال والعوائد والضرائب؛ حتى إنه كان متى استغنى أحد وُلاته صادر أمواله! ومع هٰذا، فقد كان له سلطان وكلمة مسموعة ورأي يُعتد به، وكذٰلك قام بإصلاح كل خلل في حكومة بلاده مما جعله محبوبًا من شعبه.
خراب أورُشليم
من أهم الأحداث في عصره غزوه أورُشليم وإخراب المدينة تحقيقًا لكلمات السيد المسيح عن أورُشليم: “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلًا: «إنكِ لو علمتِ أنتِ أيضًا، حتى في يومكِ هٰذا، ما هو لسلامكِ! ولٰكن الآن قد أُخفِيَ عن عينيكِ. فإنه ستأتي أيام ويُحيط بكِ أعداؤكِ بمَترَسة ويُحدِقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة. ويَهدِمونكِ وبنيكِ فيكِ، ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجر، لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادكِ».” (لو41:19-44). فقد قام ابنه “تيتوس” بحصار أورُشليم حتى مات عدد كبير من اليهود من شدة القحط، وأيضًا الأُسر. ويصف “يوسيفوس” المؤرخ اليهودي خراب الهيكل قائلاً: لا يمكن أحدًا أن يتصور أصواتًا أعلى وأكثر فزعًا مما حدث من كل ناحية في أثناء احتراق الهيكل! صيحات الانتصار والفرح الصادرة من الجنود الرومان، تختلط بصيحات عويل الشعب المحاصَر بالنار والسيف فوق الجبل وداخل المدينة.
ومن ذٰلك الحين تَفرَّق اليهود في البلاد. ويذكر بعض المؤرخين أن بخراب أورُشليم عاد إليها الكثير من المسيحيين وبنَوا فيها كنيسة لهم. وقد تعرضت مِصر في أيام حكمه لشدة وضيقة عظيمتين جراء المال والضرائب التي كانت مفروضة على الشعب. وقد مرِض “فسبسيان قيصر” في أواخر أيامه حتى مات. وتولى الحكم ابنه.
تيتوس قيصر (79م – 81م)
تولَّى حكم روما بعد أبيه. وما يثير العجب في شخصه أنه في أثناء مهاجمة أورُشليم وإخرابها كان شديد السفك للدماء، بالإضافة إلى قسوته وقيامه بالسلب والنهب. وقد تبدل حاله إلى النقيض بعد أن تولى الحكم وصار قيصرًا لروما. فقد سلك بالعدل والإحسان على رعيته، وأبعد عنه كل نفس شريرة وخبيثة، وقرَّب إليه أفاضل الناس، وقام بعمل الخير للجميع. وقد ذكر عنه أحد المؤرخين أنه قد مر عليه يوم دون أن يقوم بعمل خير لشعبه، فقال لنفسه خلال الليل: [قد مضى يومي هٰذا سُدًى. فوا أسفي! وا حزناه!]. كان “تيتوس قيصر” محبوبًا جدًا حتى إنه لُقب بـ “نعيم الدنيا”! وقد مات بعد إصابته بالحمى في عام 81م. ثم تولى أخوه الحكم من بعده.
دوميتان قيصر (81 – 96م)
تظاهر “دوميتان قيصر” بالطيبة والرفق إلى أن أصبح قيصر روما، ثم ظهرت حقيقة شخصيته واتضح أنه من قام بقتل أخيه “تيتوس قيصر” بالسُِّم.
وقد شابه في سلوكه وشخصه “نيرونَ قيصر”، فقد كان ظالمًا سريعًا إلى سفك الدماء، حتى إنه كان يبتدع طرائق غربية وغير مألوفة في توقيع العقوبات والقتل. وقد أمر بقتل أحد قادته البارعين بسبب شعوره بالغيرة من انتصاراته. وقال بعض المؤرخين عنه: [وكان إذا لم يجدْ من يقتله من الناس اشتغل بنخس الذباب!].
وكما اضطهد “نيرون” المسيحيين ببشاعة في عصره، اضطهدهم أيضًا “دوميتان قيصر” وأمر بقتلهم؛ وذٰلك لإساءته فَهم كلمات المسيحيين عن أن السيد المسيح سيأتي ثانية ويملِك على العالم. فقد اعتقد “دوميتان قيصر” أن مُلك السيد المسيح مُلك أرضيّ على العالم؛ في حين إنه مُلك روحيّ. وقد امتد اضطهاده على المسيحيين أنْ حبس يوحنا الرسول. وهو أيضًا من أمر بقتل جميع نسل يهوذا حتى لا يظهر منهم ملكًا يستحوذ على مُلكه. وأضاف إلى أعماله السيئة أنه نفى الفلاسفة من روما. وقد أدت هٰذه الأعمال الوحشية إلى كراهية الشعب الشديدة إياه حتى تمنَّوا موته، فقامت فتنة شديدة ضده انتهت بأن قام أحد الأمراء بقتله. وبموته انتهى حكم العائلية الفلوية. وانتقل الحكم للعائلة الأنطونونية.
نيرفا قيصر (96م – 98م)
قام الرومان بتولية “نيرفا قيصر” الحكم. وقد كان سياسيًا بارعًا، ولٰكنه كان ضعيفًا لا يقوى على تنفيذ سياساته؛ وهو ما جعله عُرضة لرفض وثورة من الشعب، فلجأ إلى “تراجان” ليُشركه معه في الحكم، فقضى على الفتنة. ثم شرع في أن يحكم بالعدل بين رعيته، وسمح للمسيحيين بحرية العبادة الدينية، و رَد المنفيين منهم؛ فأعاد القديس يوحنا الرسول من نفيه إلى مدينة أفسس. ثم مات بعد أن قضَّى حكمًا عادلًا سمِحًا.
و… والحديث عن مِصر لا ينتهي …!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي