تحدثنا فى المقالة السابقة عن «تاكيتوس قيصر» الذى كان أحد أعضاء مجلس الشيوخ، وقد اختلف والجنود فقتلوه. ثم أعقبه «بروبوس قيصر» وقد كان إنساناً صالحاً، شجاعاً، مستقيماً، يهابه الجميع، عادلاً وعاملاً كل الخير من أجل البلاد، وقد مات على يد جنوده أيضاً، واعتُبر موته خَسارة فادحة. وحكم من بعده «كاروس قيصر»، ثم ولداه «كارينوس» و«نوميريان»، ثم آل الحكم إلى «دقلديانوس» الذى صار قيصراً لروما.
«دقلديانوس قيصر» (284 – 305م)
وُلد «دقلديانوس» فى عائلة غير شهيرة، بل عدَّها بعض الكتاب والمؤرخين عائلة متدنِّية فى إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية فى مدينة سالونا بولاية دالماشيا بإقليم إيلليريا. وكان يعمل سائساً للخيول فى إسطبلات الإمبراطورية. سلك فى العسكرية متدرجاً فى مناصبها حتى اعتلى بذكائه منصب قائد فرسان الإمبراطور «كاروس»، ثم أصبح قائد قوات الحرس الإمبراطورى الخاص. وبعد موت كل من «كاروس» و«نوميريان» ابنه أُعلن قيصراً على روما، الوقت الذى فيه كان «كارنيوس» لايزال حاكم روما، وقد تقاتلا حتى قُتل «كارنيوس» وجلس «دقلديانوس» على عرش روما. ويُعد عصره انتهاءً للأزمة التى تعرضت لها الإمبراطورية فى القرن الثالث.
اشتُهر «دقلديانوس» ببراعته الحربية والسياسية، حتى إنه يُعد من الأباطرة الأَكْفاء الذين حكموا روما. وكان أسلوبه فى إدارة البلاد يتشابه وطريقة وأسلوب «أُغسطس قيصر»- أول الأباطرة الرومان- مثل ميله إلى تنظيم البلاد والحزم. وكان يتجه إلى السلْم والصلح عن إثارة الحروب، لذا عدَّه المؤرخون من أهم قياصرة روما.
وعندما تولى الحكم شعر بالاحتياج إلى من يسنده بالحكم ويقاسمه أعباء المملكة، فعيَّن القائد «مكسيميانوس» شريكاً له فى حكم البلاد بدرجة «أُغسطس» الذى كان قد تربى فى الجندية مظهراً فيها شجاعةً وتفوقاً. فقسَّم «دقلديانوس» حكم الإمبراطورية فيما بينه وبين «مكسيميانوس»، فأخذ هو إدارة المقاطعات الشرقية فى حين أدار «مكسيميانوس» المقاطعات الغربية.
وفى عام 293م، قام بتعيين «جالريوس» و«قنسطنطيوس» قيصرين مساعدين للأباطرة، وبذلك أصبح حكم الإمبراطورية رباعياً: اثنان من الأباطرة يلقبان بلقب «أُغسطس»، وقيصران آخران أقل منهما فى الرتبة. ويطلق على مدة الحكم هذه «الحكم الرباعى» و«الدولة الرباعية»، كان فيها «جالريوس» يساعد «دقلديانوس»، فى حين عاون «قنسطنطيوس» «مكسيميانوس».
ومع أن هذه الشراكة الرباعية فى الحكم جاءت بأثر إيجابى على أمور الدولة: إذ تقوَّت وعظُم شأنها مستعيدة قوتها ومجدها، واستطاع «دقلديانوس» تأمين حدود الإمبراطورية من هجمات الأعداء بل هزيمة كل من تسول له نفسه الانفراد بحكم البلاد، فقد استطاع «قنسطنطيوس» هزيمة هجمات القبائل الفرنسية والألمانية والإنجليزية، كما انتصر «جالريوس» على الفرس، إلا أنه كانت هناك جوانب سلبية بسبب الصراعات الداخلية للاستقلال بحكم البلاد.
وعمِل «دقلديانوس» على تحسين أمور الدولة إدارياً، واهتم بالأحكام والقوانين والتشريعات، وقسَّم وتوسع فى الخِدمات العسكرية والمدنية للإمبراطورية مؤسساً أكبر الحكومات وأكثرها بيروقراطيةً فى تاريخ الإمبراطورية. كذلك ساعد على استقرار الإمبراطورية اقتصادياً وعسكرياً مما جعلها تستمر مدةً طويلة بعد أن كادت تنهار، مع اهتمامه بإدخال بعض العادات الشرقية، مثل مظاهر المُلك بحسب ملوك الشرق.
وتذكر بعض الكتب التاريخية عن «دقلديانوس» أنه كان يطالب لنفسه باحترام العبادة كالكاهن الأعظم للإله «چوبيتر»! وأيضاً أطلق على نفسه لقب «رب وسيد العالم»! ولم يسمح لأحد بالاقتراب إليه إلا وهو راكع مقبلاً أطراف ثيابه، وأن يكون هو جالساً على العرش فى أفخر الثياب من الحرير والذهب!! وكان دقلديانوس يلبَس تاجاً من عصابة عريضة مرصعة باللآلئ، وأحذية مرصعة بالحجارة الكريمة!! وعلى كفاءته هذه المشهود لها فى الحرب والإدارة، إلا أنه كان سريع التأثر بالخرافات، ويستشير أصحاب العِرافة وكهنة الأوثان قبل البَدء فى المشروعات.
أمّا عن مِصر فى مدة حكمه فقد وقعت من نصيبه هو. وكان والى مِصر آنذاك ـ واسمه «أجله» ـ يحاول الاستقلال بحكم مِصر بعيدًا عن الإمبراطورية الرومانية. فسار إليه «دقلديانوس» بجيوش كثيرة وحاصر الإسكندرية ثمانية أشهر حتى فتحها واستولى عليها، وقتل هذا الوالى. وفى هذا يقول المقريزى: [وخالف عليه أهل مِصر والإسكندرية (أى أرادوا مخالفته والخروج على طاعته)، فأرسل جيشاً جراراً وقتل منهم خلقاً كثيراً جداً].
وقد قاد «دقلديانوس» أقسى اضطهاد رومانى جرى على المسيحيين فى مِصر، كان اضطهاداً مروعاً حتى إن الأقباط قرروا اتخاذ بداية توليه الحكم بدءاً لتقويمهم القبطى وتأريخاً للأحداث، وسمَّوه «تاريخ الشهداء» لكثرة ما سُفك فيه من دماء الشهداء. وكتب المقريزى أيضاً: [وأوقع بالنصارى فأسال دماءهم، وغلَّق كنائسهم، ومنع من دين النصارى، وحمَل على الردة وعبادة الأصنام، وأسرف جداً فى قتل النصارى، وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم].
– «دقلديانوس» واضطهاده المسيحيِّين
بدأ عهد «دقلديانوس» عهداً ممتلئاً بالتسامح تجاه المسيحيين زمناً طويلاً من حكمه، بل إن قصره ووظائف الدولة كان بها عدد كبير من المسيحيين. وذهب البعض إلى القول إن زوجته «بريسكا» وابنته «فاليريا» كانتا مسيحيتين أو على أقل تقدير متعاطفتين إزاءه.
أما عن سبب انقلابه واضطهاده المسيحيين، فيعود إلى رواية تقول إنه فى أحد الأيام ذهب الإمبراطور بجنوده إلى معبد الآلهة لاستشارتهم فى أمر ما، فأتاح هذا الأمر الفرصة للكاهن الوثنى أن يَشِىَ بالمسيحيين، فقال للإمبراطور إن الآلهة لا تُعلن رأيها فى وجود أعدائها ـ قاصداً المسيحيين- وقد صدق الإمبراطور قوله، فثار وطرد كل المسيحيين، ثم أمر بأن يقدموا القرابين لإرضاء الآلهة الوثنية.
إلا أن هناك إجماعاً بين المؤرخين على أن تغير «دقلديانوس» وكراهيته الشديدة وعداوته للمسيحيين هى بسبب «جالريوس» معاونه الذى كان وثنياً متعصباً شرساً بطبيعته، وكان لا يتوقف عن الإيعاز لدقلديانوس بأهمية وضرورة القضاء على الكنيسة.
وفى فبراير 303م، صدر مرسوم ينص على هدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وطرد جميع المسيحيين من ذوى المناصب الرفيعة، وحرمانهم من الحقوق المدنية، وحرمان العبيد من الحرية إن أصروا على الاعتراف بالمسيحية، مع معاقبة كل من يخالف هذه الأوامر.
وانتشر أمر المنشور فى البلاد والمقاطعات الرومانية، وكان الموت نصيب كل من يعترض. وازدادت كراهية «دقلديانوس» وعداوته ضد المسيحيين، وسرت موجة الاضطهاد فى كل ربوع الإمبراطورية سريان النار فى الهشيم! وبالأخص عندما حدث حريق فى قصر الإمبراطور اتهم فيه «جالريوس» المسيحيين بمحاولة قتل الإمبراطور، فصدقه وازداد وحشية ضد المسيحيين. على أنه يُنسب هذان الحريقان إلى «جالريوس» الذى كان يرغب فى إثارة الإمبراطور ضد المسيحيين. وكأن التاريخ يعيد نفسه عندما حُرقت روما واتُهم بإشعال الحريق المسيحيون، وكان سبب أول اضطهاد لهم على يد نيرون.
ثم صدر منشوران متلاحقان فى السنة نفسها، يتحدث الأول عن سجن جميع رؤساء الكنائس، أما الثانى فيتحدث عن تعذيبهم حتى يقوموا بجحد الإيمان. وفى إبريل أصدر «مكسيميانوس» أسوأ منشور وهو المنشور الرابع، ويقضى بإرغام المسيحيين على تقديم الذبائح إلى الآلهة الوثنية بهدف القضاء على المسيحيين. وهكذا فى مِصر بدأت سلسلة عظيمة من الاضطهادات و… والحديث عنها لا ينتهى…!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى