أهنئكم بـ«عيد القيامة» الذى يحتفل به مَسيحيُّو الشرق، أعاده الله علينا جميعاً بالخير. عرَف الإنسان المَوت، إلا أنه لم يقبل أو يتقبل معه إلا فكرة وجود حياة أبدية لا يعتريها مَوت فيما بعد. وقد سجل تاريخ الشعوب وحضاراتهم القديمة إيمانهم بعقيدة الخُلود والقيامة من أجل العودة إلى الحياة مجددًا فى العالم الروحانى.الحضارة المَصرية القديمة
التحنيط
آمن المِصرى القديم بعقيدة «البعث» والحياة بعد الموت، وبعودة الروح إلى الجسد. فقد رفض المِصرى القديم مَوت الروح، وصوَّرها فى نقوشه ورسومه بهيئة كائن له جسد طائر ورأس إنسان، وهذا الطائر ينتقل بين كلا العالمَين المادى الأرضى والآخر السمائى. إلا أن جدنا المِصرى القديم قد نادى بأن الروح لا بد لها من أن تتعرف جسدها الذى احتواها فى حياتها على الأرض لتتمكن من العودة إليه. ولهذا برع قدماؤنا المِصريُّون فى التحنيط، الذى صار تعبيرًا عمليًا عن إيمانهم ببعث الروح، فبه تمكنوا من الحفاظ على جسد الإنسان دون تغيير لتتمكن الروح من العودة إليه وتجده محفوظاً سليماً، فيقوم الإنسان جسدًا وروحـًا إلى عالم الخُلود. وكان التحنيط يدخل فى النظام الدينى المِصرى ويسمى «نظام الأسرار»، ولا يؤذن لأحد بالاطلاع عليه، إلا الكاهن الأكبر الذى يقوم باستدعاء اثنين من كبار الكهنة لمساعدته فى أعماله وطقوسه.
آلهة الخير والشر
وإيمانًا من أجدادنا المِصريَّين القدماء بالخُلود والقيامة، وبأنه يوجد حساب للإنسان على ما فعله فى الحياة من خير أو من شر، نادَوا بوجود إله للخير وآخر للشر، وبأن الإنسان فى حياته يصارع بين ما هو خير وما هو شر، وبأنه بعد الموت سيمثُل أمام المحكمة الإلهية لمحاسبته على أفعاله، فيوزن قلبه فى ميزان العدل والحكم.
الأهرام
تُعد الأهرام أحد أهم الآثار التى ماتزال شاهدة، حتى عصرنا الحالى، على اعتقاد قدمائنا المِصريِّين فى خُلود الروح، والبعث من جديد بعد الموت، وبأبدية الحياة الأخرى. وقد بنى الأهرام الملوك الفراعنة لتكون مقابر ملكيةً كلٌّ منها يحمل اسم الملك الذى بناه من أجل أن يُدفن فيه، فبنَوا القدماء الهرم كمقبرة حصينة يضعون فيها الجثمان بعد تحنيطه. وكانوا يمُدون الميِّت بمجموعة كاملة من حاجاته: الأدوات التى يستخدمها، وقطع الأثاث، مع الطعام والشراب الذى كان يتناولهما فى حياته! بل كانوا ينقشون جُدران المقبرة بالمناظر البَهِجة لتُدخل السرور على الميِّت حين يعود إلى الحياة!! وهكذا، يتهيأ الميِّت بحالة من الاستعداد حتى متى جاءت الروح تتعرف جسدها الذى كانت فيه، ويعود الإنسان إلى حياة الخلود سليمًا معافى، ليقف أمام المحكمة الإلهية ليجازَى على كل ما فعله فى أثناء حياته الأولى.
الحضارة السُّومَرية
عرَف «السُّومَريُّون» و«الكَنعانيُّون» «طائر الفينيق» الخيالى كرمز لعقيدة «البَعث» والقيامة والعودة إلى الحياة. وقد أطلق العرب على هذا الطائر اسم «العَنقاء»، ويمتاز بالجمال والقوة. وتشير القِصص والأساطير بهذا الطائر إلى مفهوم البشر آنذاك عن «البعث» والقيامة. فنجد أن المؤرخ «هيرودُوت» قد ذكر الأسطورة التى تقول: إن مرة كل ألف عام تُريد «العنقاء» أن تولَد ثانية، فتترك موطنها إلى «فينيقيا» حيث تختار نخلة أو شجرة مرتفعة تصل قمتها إلى السماء، وتبنى هناك عُشًا لها. ثم تموت فى النار، ومن الرماد تخرج دودة بيضاء تتحول إلى «شرنقة»، تخرج منها «عنقاء جديدة» تحمل بقايا الجسد القديم، ثم تعود إلى موطنها، وقد اختلفت تفاصيل القِصص والروايات التى تحكى عن هذه الأسطورة.
وترتبط أسطورة طائر «العنقاء» بأسطورة أخرى تتحدث عن الإله الراعى «تموز» الذى عُوقب بالمَوت، ثم قررت الإلهة «عشتار» إنقاذه من المَوت فعقدت اتفاقًا مع آلهة العالم السفلى على إعادته إلى الحياة ستة أشهر بشرط أن يحِل مكانه شخص آخر فى تلك المدة، ويتم ذلك عن طريق «الفينيق» أو «العنقاء» التى تعود إلى الحياة. وهكذا أصبح «السُّومَريون» و«الكَنعانيون» يحتفلون مع بداية الربيع بعيد عودة «تموز» للحياة، وعودة الربيع والحياة للأشجار والزروع.
«الدُّرزية» و«البوذية» و«الهندوسية»
تؤمن الديانات «الدُّرزية» و«البوذية» و«الهندوسية» بفكرة «القيامة»، ولكن بمفهوم مختلف، إذ يؤمنون بالتناسخ أى عودة الروح ولٰكن فى جسم جديد- بحسب معتقدهم. ويكون الحساب فى النهاية للأرواح فيما فعلته من خير أو شر.
الفلاسفة «اليونانيُّون»
لم يخلُ فكر الفلاسفة اليونانيِّين وكلماتهم من ذكر إيمانهم بالحياة بعد الموت وتأكيده، وحساب الإنسان عن أعماله، فقد ذُكر عن «سقراط» كلمات يصف بها ما سيُلاقيه الأبرار فى الحياة الأبدية، وما سيَجنيه الأشرار فيقول:
«إن الذين يَمضون إلى الآخرة، وقد أفنَوا أعمارهم فى الطهارة وسبيل القصد، فإن الملك يقودهم إلى أرض مشرقة عجيبة. وما نبت فيها من الأزهار والأشجار (هو) بخلاف هذه، إذ كانت التربة والأحجار بخلاف تلك الأحجار… إن الذين عظمت ذنوبهم وجناياتهم وتركوا واجبات الشريعة، فإنهم يُحملون إلى نهر يلتهب بنار عظيمة ويغلى بماء وطين، فيكونون فيه أبدًا لا يخرجون منها. وأمّا الذين برُزوا (كانوا طاهرى الخُلق عفيفين) فى حُسن السيرة، فإنهم يصيرون إلى فوق، إلى المسكن النقى فيسكنونه». ومن كلماته أيضًا: «حاذِر من عمل الشر أكثر مما تُحاذِر من العذاب بسببه»، فهو يؤمن بالقيامة والحساب اللذين يعبُر إليهما الإنسان بعد الموت، ومن ثَم بأنه سيقوم.
الديانات
آمنت الديانات: «اليهودية»، و«المسيحية»، و«الإسلامية» بفكرة البعث والقيامة والحياة بعد الموت، ونجدها واضحة فى التعاليم التى قدَّمتها إلى الإنسان.
ففى اليهودية: نجد فكرة الخُلود والقيامة عند اليهود فى قصة «الغنى ولعازر المِسكين» السيد المسيح التى قدمها مثلًا. فقد كان «لعازر» رجل فقير يجلس عند باب رجل غنى لم يلتفت أو يُحسن إليه. وعندما مات الاثنان، ذهب الغنى إلى موضع العذاب لأنه لم يساعد ذلك الفقير المحتاج. والإشارة هنا تؤكد الحياة بعد الموت ومجازاة كل إنسان بحسب أعماله.
ومن هنا نجد أن الإنسان، عبْر التاريخ، كان يسعى دائمًا للبحث عن حل لمشكلة الموت الذى حتمًا سيمر به، وآمن بأن الموت ليس هو النهاية لحياته، بل هناك ما بعد هذه الحياة التى يعيشها حياة أخرى لا تنتهى. وسواء عبّر الإنسان عن هذه الفكرة بطريقة مقبولة أو غير مقبولة، إلا أن ذلك يؤكد إيمانه العميق داخله بوجود إله خلق البشر ووهب لهم حياة يعبرونها، ثم يكافَؤون أو يعاقَبون عليها، على حسب استخدام هذه العطية للخير كان أو للشر.
وبذلك أصبحت القيامة تحمل معنى متجددًا بأن الموت لم يعُد هو الأمر الذى يُرهِب أو يُحزن، بل هو طريق نعبر فيه من حياة إلى أخرى، كما صارت رسالة بأن اختيار الحياة الأبدية إنما هو بيد الإنسان. فليس كما ذكر أحدهم أن وجود الإنسان فى الحياة هو آثار على رمال تضيع عبر الزمن! إنها آثار نُحتت على الصخر وكُتب لها الخُلود. أمّا من يرفض القيامة والخُلود، ويدّعى بفناء الإنسان بعد الموت، فما كل هذه إلا محاولات لإنكار مسؤوليته عن الحياة التى اؤتُمن عليها.
كل عام وجميعكم بخير و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى