احتفل الأقباط أمس بـ«عيد النيروز» رأس السنة القبطية، وهو يرتبط بالسنة المِصرية القديمة، وبالاستشهاد المُريع الذي عاشه المِصريُون أيام الدولة الرومانية، الذي بدأ مع الإمبراطورَين «دِقْلِدْيانوس» و«مَكْسِمْيانوس».
معنى «نَيروز»
وبدايةً، يجب التوضيح أن هناك «عيد النيروز» الذي يحتفل به المِصريُون، المختلف عن «عيد النيروز» الذي يحتفل به الفرس.
وكلمة «نيروز» المِصرية جاءت من الكلمة القبطية «نِى يارُؤو» التي تعنى «الأنهار»، لاكتمال موسم فيضان النيل في «مِصر»، ثم تحورت اللفظة إلى «نيروس» في الحِقبة اليونانية التي عاشتها «مِصر»، ومنها صارت «نَيروز» إذ اعتُقد أنها ترتبط بالعيد الفارسى. وتذكر بعض المصادر أن كلمة «نَيروز» اختصار لعبارة «نيارو إزمو روؤو» التي تعنى «سبِّحوا وبارِكوا» ويُقصد بها مبارَكة الأنهار، ليُصبح عيد «النيروز» هو «عيد مبارَكة الأنهار».أمّا كلمة «نَيروز» الفارسية، فهى تعنى «اليوم الجديد» وهو «عيد الربيع» عند الفُرس، ويُحتفل به في الحادى والعشرين من مارس.
ارتباط التقويمين القبطى والمِصرى
قدَّمت «مِصر» التقويم إلى العالم، حيث وضع قدماء المِصريين تقويمهم الذي يُعد الأكثر دقة عن المُناخ وأمور الزراعة في «مِصر»، فيعتمد عليه المزارع المِصرى منذ آلاف السنين في تحديد مواسم زراعة محاصيله خلال العام، وهو تقويم شمسى يقسِّم السنة إلى ١٣ شهراً اعتمادًا على دورة الشمس.
وحين أرادت الكنيسة المِصرية عمل تقويم لها، لم تتخلَّ عن مِصريتها العريقة وأصولها الممتدة آلاف السنين، فاتخذت من أسماء شهور التقويم المِصرى القديم أسماءً لشُهور السنة القبطية، وهى: تُوت (١١/٩-١٠/١٠)، بابَه (١١/١٠-١٠/١١)، هاتُور (١١/١١-٩/١٢)، كِيَهْك (١٠/١٢-٨/١)، طُوبَه (٩/١-٧/٢)، أَمشِير (٨/٢-٩/٣)، بَرَمْهات (١٠/٣-٨/٤)، بَرَمُودة (٩/٤-٨/٥)، بَشَُنْس (٩/٥-٧/٦)، بَؤونَة (٨/٦-٧/٧)، أَبِيب (٨/٧-٦/٨)، مِسْرَى (٧/٨-٥/٩)، النَّسِيء (٦-١٠/٩) ويُسمى أيضا «الشهر الصغير».
بداية التقويم القبطى
اتخذ الأقباط بداية حكم «دِقْلِدْيانوس» ليُصبح بداية تاريخ للتقويم القبطى، وسمَوه «تقويم الشهداء» الذي تستخدمه «الكنيسة القبطية الأرثوذكسية» في «مِصر»، وذلك أن «دِقْلِدْيانوس» قاد أقسى اضطهاد رومانى تعرض له مَسيحيو «مِصر» إذ كثر فيه سفك دماء الشهداء، ولذا كتب عنه «المقريزى» يقول: «وأسرف جدًّا في قتل (النصارى)، وهو آخر من عبدالأصنام من ملوك الروم».
وفى فبراير عام ٣٠٣م، صدر مرسوم: بهدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وطرد جميع المَسيحيين، وحرمانهم من الحُقوق المدنية والحريات، مع معاقبة كل من يخالف هذه الأوامر بالموت. وقد استمرت نيران الاضطهاد في سائر أنحاء المقاطعات الرومانية عشْر سنوات حتى عام ٣١٣م.
وبحسَب ما يذكر المؤرخون، فإن الاضطهادات في الشرق كانت أكثر عنفاً وأشد وطأة منها في الغرب. و«مِصر» بالأخص كان لها تاريخ مميز وسجل حافل بهذه الأحداث، حتى إن الإمبراطور حين كان يرغب في تعذيب أحد بشدة، كان يُرسله إلى وُلاة «مِصر» القساة المشهورين بتفننهم في التعذيب، مثل: «أرمانيوس» والى «الإسكندرية»، و«أريانوس» والى «أَنْصِنا». وقد قُدر عدد شهداء الأقباط بقُرابة ٨٠٠ ألف!
محبة الشهداء
ومع بداية «تقويم الشهداء»، نتذكر المحبة العظيمة التي يقدِّمها الشهيد في بذله لحياته، فيقول مثلث الرحمات البابا «شنودة الثالث»: «كثير من الناس يُعطُون، لكنّ الذي يُعطى حياته هو أعظم من هؤلاء جميعا، فالبعض يُعطى جزءًا من ماله، والآخر يُعطى كل ماله، لكن أعظمهم من يُعطى حياته بحب.. ليس حب أعظم من هذا: أن يبذُِل أحد نفسه عن أحبائه!».
واليوم، نقدِّم شهيدًا من أشهر الشهداء المِصريين هو مار «مينا» الملقب بـ«العجائبى».
حياة مار «مينا»
وُلد «مينا» في بلدة «نِقيوس» بمركز «مُنوف» محافظة «المُنوفية»، عام ٢٨٦م تقريبا، من عائلة حاكمة، وكان جَده حاكم الإقليم، ثم تولى الحكم من بعده عم «مينا». وإذ كان «أُودُكسيوس» أبوه إنسانا محبوبا من الناس لفضائله التي يتمتع بها، اغتاظ أخوه «أناطُوليوس»، فسعى للتآمر عليه لدى الملك للتخلص منه، ولكنّ الملك أمر بتعيينه حاكماً على إقليم «أفريقيا» بعد موت حاكمها.
كانت والدة «مينا»، واسمها «أُوفِيمِية»، إنسانة تقية، وكانت عاقرًا، فطلبت بصلوات، وأصوام كثيرة تمتد إلى المَساء، أن يهِب لها الرب نسلًا طاهرًا. وفى عيد نياحة «السيدة العذراء»، ذهبت إلى كنيستها بـ«أتريب»، ورفعت صلاة طويلة إلى الله طالبة شفاعتها، فسمِعت صوتا يقول لها: آمين! ولم تمر مدة طويلة حتى حمَلت، وأنجبت ابنا، ودعت اسمه «مينا» الذي يعنى «آمين».
نشأته
غرس والدا «مينا» فيه منذ طفولته روح المحبة والفضيلة والتقوى. تنيح والده وهو في سن الحادية عشْرة، ثم تنيحت والدته بعده وهو في الرابعة عشْرة، ليرث عنهما أموالاً كثيرة، فاستمر في عمل الخير والتصدق على المحتاجين.
الجندية
بعد عام من نياحة والدته، صدر أحد المنشورات الملكية بتعيين كل من يصلح للجندية، فعُين «مينا» وهو في الخامسة عشْرة ضابطا في الجيش، ونائبا عن الوالى، فتولى من بعد أبيه قيادة الجيش. ونال الضابط «مينا» المحبة والاحترام من الجميع.
ومع بَدء الاضطهادات، قرر «مينا» أن يترهب، تاركا العالم، متخلياً عن منصبه، فقام بتوزيع أمواله على الفقراء والمُعوَزين، متوجها إلى البرِّية، بعد أن خدم في الجيش ثلاث سنوات. ومع استمرار الاضطهادات، انطلق «مينا» عائدًا إلى المدينة، وكان ذلك اليوم موافقا لاحتفال دينى عظيم. وتقدَّم «مينا» إلى ساحة الاحتفال، فسأل الوالى عن هُوَيته، وحين علِم أنه مَسيحى، قال له: «هل أنت غريب حتى تتجرأ أن تأتى وسْط الاحتفال؟! ألعلك ترغب أن تُعطل الاحتفال السنوى بعيد الملوك، مزدريا بأوامرهم؟!»، وعندئذ عرَف بعض الجنود «مينا» وأخبروا الوالى: «نحن نعرِف هذا الشاب جيدًا، فقبل قُرابة خمس سنوات كان قائدًا لفرقتنا، وكان أميرًا جليلًا ومكرمًا من كل أحد». اندهش الوالى جدًّا، وسأله عن سبب تركه الجندية، واعترافه بإيمانه. فأجاب «مينا» بأنه كان جنديًا، إلا أنه لن يقبل عبادة الأوثان، ولذا ذهب إلى البرِّية. أمر الوالى بوضع «مينا» في السجن إلى حين الانتهاء من الاحتفال بالعيد، ثم العودة لتعذيبه.
محاكمات وآلامات
وبعد الانتهاء من العيد، أحضر الوالى «مينا»، وانتهره على جَراءته في الحضور وسْطهم، والمجاهرة بإيمانه دون مبالاة أو خوف من مراسيم الملوك، ولكن «مينا» أصر على إيمانه. فحاول الوالى استمالته بالعطايا والمِنح، فلم يفلح، فتحول إلى التهديد والوعيد. ولكن، هيهات أن يؤثر التهديد والألم في عزيمة المِصرى الذي يحمل إيمانه في فكره وقلبه!! وبدأت سلسلة من الآلامات والعذابات على الشاب «مينا» كى ينثنى عن عزيمته.
عذَّب الوالى الشاب «مينا» بأنواع عذابات كثيرة، ولكنه لم يستطِع أن يرده عن إيمانه. فأرسله إلى الأمير في رفقة أربعة جنود مع رسالة بشأنه. وما إن وصلوا، حتى سلَّموا «مينا» والرسالة للأمير، فهدده وتوعده ولكنه لم يستطِع أن يؤثر في صموده، فألقاه في السجن لينضم إلى مِصريين كثيرين، فكان يُعزّيهم ويشجعهم ويقويهم!
وفى اليوم التالى، استدعى الأمير «مينا»، وعذبه كثيرًا حتى تعِب من صموده، فأمر بقطع رأسه بالسيف، ليُستشهد في الخامس عشَر من هاتور سنة ٣٠٩م، وهو لم يتعدَّ بعد الرابعة والعشرين. وقد حاول الجند إحراق جسده، لكنهم لم يتمكنوا. وحضر بعض المؤمنين وكفّنوه بأكفان ثمينة، ودفنوه بكل وقار. ويُذكر أن في إحدى الحروب، كان أحد القواد، ويُدعى «آثناسيوس»، يصطحب جسد مار «مينا» معه في حربه ضد الأعداء الهاجمين على مدينة «مريوط». فبعد هزيمة الأعداء، حاولوا العودة بالجسد، ولكن الجمل رفض القيام والسير معهم، فنقلوا الجسد إلى عدة جمال أخرى فلم تتحرك. فعلِموا أن إرادة الله أن تظل رُفات مار «مينا» في «مريوط» بـ«مِصر». وقد رسم القائد «آثناسيوس» صورة لمار «مينا» وإلى جواره أشكال جمال، ووضعها مع جسده في تابوت خشبى لا يُسَوِّس دفنه في قبر صغير، ومعه كتابة تَذكارية عنه، ثم عاد إلى بلاده.
إن الشهيد المِصرى مار «مينا العجائبى» لهو صورة مضيئة ناصعة عما قدَّمته «مِصر»، وتظل، من شهداء عظماء في تاريخها، لتستمر مِصرنا منارة تحمل كل بركة إلى العالم بأسره.
كل عام وأنتم بخير، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!