قدَّمنا فى سلسلة من المقالات، خلال شهر أكتوبر الماضى، نماذج مشرفة من شهداء الوطن: شهداء مجـزرة «الإسماعيلية» عام ١٩٥٢م، وشهداء «بورسعيد» الذين تصدَّوا لعُدوان عام ١٩٥٦م، والفريق الأول «عبد المُنعم رياض»، والرقيب «مُحمد فوزى ناجى سالم البرقوقى»، واللُّواء أركان حرب «شفيق مترى سدراك»، والرقيب «سيد زكريا خليل»، واللُّواء أركان حرب «أحمد حمدي»، والرائد «غريب عبد التواب أحمد»، والمجند «شنوده راغب»؛ هؤلاء الأبطال هم جزء لا يتجزأ من أيقونة شعب بأسره أحب بلاده وقدَّم إليها حياته؛ وماتزال كثير من الأسماء المعروفة وغير المعروفة من شهداء الوطن، الشركاء فى صنع النصر، أبطالاً مجهولين لنا.
ولذٰلك يجب أن نتروى، قبل أن تعبر بنا ذكرى الانتصار دون أن نُمعِن فى سمات طريق النصر:
الهدف
إن صناعة النجاح وتحقيق الإنجازات فى تاريخ الأمم وحياة الأشخاص يحتاجان إلى أهداف عظيمة توضع نُصب الأعين؛ فكما يقولون: «إن لم تعلَم أين تذهب، فجميع الطرق متاحة»، لأن الأهداف هى تحديد وتثبيت لنقطة الانطلاق فى الطريق. وفى ذكرى انتصار أكتوبر، نجد أن الهدف كان جليـًّا أمام المِصريِّين جميعـًا إذ لم يكُن لهم بديل عن النصر.
وقد قام المِصريُّون من: قيادات، وقوات مسلحة، وشرطة، ومدنيِّين؛ كلٍّ بالدَّور الذى يستطيع أداءه بإخلاص وأمانة، وبدافع من ضميره ومحبته الشديدة لبلاده، مقدمين جميعهم حياتهم دون تراجع لأجل الوصول إلى ذٰلك الهدف. وعلى سبيل المثال الشهيد «مجدى زاهر قلادة»، الذى استُشهد فى أثناء أدائه لعمله فى مصنع لإنتاج الجُسور التى سوف تستخدمها القوات المسلحة المِصرية لعبور «خط بارليف». فقد اندلعت النيران بالمصنع وكادت تلتهمه تمامـًا، لولا وجود «مجدى» الذى أخذ فى مكافحة النيران بمفرده فى محاولة لإخمادها وإنقاذ محتويات المصنع من الدمار، مقدمـًا حياته لأجل تحقيق هدف النصر. بطل آخر هو الشهيد العقيد «مُحمد زرد» الذى لُقب بـ«بطل خط بارليف»، إذ قام بفتح الحصن الوحيد الذى ظل منيعـًا عنيدًا أمام القوات المِصرية، إذ أسرع إليه مواجهـًا الرَّصاص الإسرائيلى ليُلقى بقنبلة داخله عبر فتحة تهويته، ثم يدخله فاتحـًا الطريق لفرقته لاقتحامه، ليسقط الحصن فى يد رجال «مِصر» الأبطال، ويُرفع العلم المِصرىّ فوق آخر حصون «خط بارليف».
التخطيط
يقولون: «الأهداف هى رؤية يحولها الإنسان إلى خُطط وخُطوات عملية لتحقيقها». وهٰذا ما حدث فى «حرب أكتوبر»: فقد كان هدف النصر يحتاج إلى تخطيط جيد، وإعادة بناء، والوصول إلى وسائل التغلب على العوائق والمشكلات التى تحول دون تحقيق الهدف. لقد كان الساتر الترابىّ، كجزء من «خط بارليف» الذى يُعد أقوى خط تحصين دفاعىّ فى العصر الحديث، يمثل عائقـًا عن عملية شن الحرب والانتصار. وكان العدُو يستخدم وجود ذٰلك الساتر فى بث روح اليأس فى نُفوس جنودنا باستحالة عبور مثل هٰذا المانع، ومن ثَم فشل الحرب والنصر. ولم يستسلم التخطيط العسكرىّ المِصرىّ، فَسُرعان ما قد بدأت الدراسات فى كيفية التغلب على تلك المشكلة. وفى حديث للُواء مهندس «باقى زكى يوسف» يقول: «حينما صدرت إلينا، فى مايو ١٩٦٩م، أوامر بالاستعداد للعُبور فى أكتوبر من نفس العام، اجتمعنا إلى القادة ليَعرِض كل قائد فرقة خُطته فى العبور بأقل الخسائر، وكنتُ جالسـًا أستمع إلى شرح لواء «طلعت مسلم» ـ آنذاك «مقدم طلعت». وقد ذكر لُواء «طلعت» أنه يمكن نسف «خط بارليف» باستخدام المتفجرات، ما يستغرق ١٢-١٥ ساعة، مع خسائر بشرية تقدر بنسبة ٢٠%!! ويستكمل لُواء «باقى زكى» حديثه بأنه طلب الكلمة، فقال: «الحل فى خُرطوم المياه! وسنحتاج إلى طلمبات مياه ماصة كابسة صغيرة تحملها الزوارق الخفيفة، وتمتص الماء من القناة، وتكبسها، وتصوب مدافع مياه بعزم كبير على الساتر الترابىّ فتتحرك الرمال. ومَيل الساتر الترابىّ سيسمح بانهيار الرمال فى قاع القناة. ومع استمرار تدفق المياه، سنفتح ثُغرات فى الساتر بالعمق وبالعرض المطلوب، وعن طريق هٰذه الثُّغرات، يتم عبور المركبات والمدرعات إلى عمق سيناء». وهٰكذا حطم لُواء مهندس «باقى زكى يوسف» أسطورة «خط بارليف» بفكرة مدافع المياه فى فتح الساتر الترابى، تمهيدًا لعبور القوات المِصرية إلى «سيناء»، وأنقذت فكرته تلك ما لا يقل عن ٢٠ ألف جندى مِصرى من الموت المحقق. وهٰكذا كان الفكر والتخطيط والعمل من أجل تحقيق الهدف.
الإصرار
إن وجود الهدف والدافع القوى لتحقيقه، مع العمل والتدريب بلا توقف، خلق داخل الإنسان المِصرى إصرارًا قويـًّا لا يهتز؛ تجلت مشاهده فى بطولات ذُكر عنها أنها نماذج للتحدى والانتصار على المستحيل. والأمثلة على مثل تلك البطولات كثيرة، منها:
البطولات الفردية
– «هزاع»: وهو اسم أحد الأبطال الذين شاركوا فى الحرب، واستُشهد بعد استمرار فى القتال ٤٨ ساعة دون توقف!! بعد أن واجه هو وأفراد كتيبته لواءين للعدُو، والطيران الإسرائيلى.
– «غنيم»: بطل مِصرىّ من قادة البحر، أُطلق عليه فى صحافة الغرب أنه كان أحد «سادة البحرين الأحمر والأبيض»! لم يتوقف عن القتال ٩٠ دقيقة! بالرغم من إطلاق ١٢ قنبلة من الطيران الإسرائيلى، وهو يناورهم بشجاعة لا تستطيع الأحرف وصفها حتى استشهد.
– «سيد هنداوى»: الذى قاد دبابته وهى محترقة ليقضى بها على وِحدة إسرائيلية كاملة.
– «نشأت»: جندى الإشارة الذى رفض الانسحاب من موقعه فى «سيناء» هو وقائده حتى استُشهدا.
– «فاروق»: بطل قاتل ٩٦ ساعة متواصلة، واستطاع أسر طاقَم دبابة للعدُو بمفرده!!! واستُشهد من قذف طائرات العدُو.
البطولات الجماعية
– مفرزة الموانع المتحركة: «الفرقة ٢١ مدرعات»، بقيادة مقدم مهندس «محمود التميمى»، التى تصدّت للدبابات الإسرائيلية التى عبرت إلى الضفة الغربية فى أيام ١٥-١٩ أكتوبر.
– أبطال الصاعقة المصرية: بقيادة نقيب «حمدى شلبى»، فى منع وصول الدبابات الإسرائيلية إلى «قناة السويس»، قبل استكمال الجُسور وعبور الدبابات المِصرية إلى «سيناء»، حين قاموا بإغلاق المحور الساحلىّ فى «سيناء» الموازى لشاطئ «البحر الأبيض المتوسط» عند «رمانة»، فى السابع من أكتوبر، مدة ست ساعات فى مُهمة بلا عودة! دارت الاشتباكات العنيفة مع دبابات العدُو، والعربات المدرعة، وعربات النقل، لينسحب العدُو مرسلاً طيرانه لضرب الأبطال الذين استمروا فى المقاومة، حتى إن دبابات العدُو كانت تتراجع أكثر من مرة أمام أولٰئك الأبطال غير العابئين بالموت، الذين لم يفكروا فى حياتهم لحظةً واحدة بل بذلوها عن طيب خاطر حبـًّا فى «مِصر»؛ ليشهد لهم العدُو نفسه: «لقد قاتل رجال الـ«كوماندوز» المِصريُّون على المحور الساحلىّ بكل بسالة، وكأنهم قد أقسموا على أن يدفعوا أرواحهم ثمنـًا لمنعنا من الوصول لـ«قناة السويس». تلك عينة صغيرة جدًّا من نماذج عظيمة سمِعنا عن إصرارها على تحقيق النصر، وبطولات شهِد لها العالم أجمع.
ولاتزال البطولات قائمة فى التصدى لكل عدُو تسول له نفسه التجرؤ على أمن «مِصر» والمِصريِّين؛ فقد رأينا وسمِعنا عن عملية «حق الشهيد-١» التى خاضها رجال القوات المسلحة مع أهل «سيناء» لدحر العصابات الإرهابية وتطهير الأراضى المِصرية منها، لتبدأ عملية «حق الشهيد-٢» فى استمرار على طريق البطولات المِصرية.
إن النجاح الذى تحقق فى ملحمة «نصر أكتوبر»، وشهد العالم له ببراعة المِصرىّ فيها، وقدرته على تحدى المستحيل، لهو نموذج مضىء لجميع مسيرات النجاح فى التاريخ القديم والحديث للمِصريِّين. لذا، نستلهم من تلك الملحمة، الفائقة التصور، الخطى بروح جديدة متجددة نحو تحقيق مزيد من الانتصارات والإنجازات، لا فى مجال الحرب فقط، بل على الصعيد المدنىّ والاجتماعى. والآن، علينا جميعنا أن نضع نصب أعيننا هدفـًا هو «بناء مِصر ومستقبلها»، نعمل من أجله بإصرار المِصرىّ وعزيمته التى تحقق أعظم البطولات.
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ