«ما نفعله لأنفسنا يموت معنا، ولكن ما نفعله للآخرين وللعالم يبقى خالدًا.». نعم، فصفحات التاريخ لا يمكنها إلا أن تسجل تلك الشخصيات التى أثْرَت ووهبت وقدَّمت، لا لنفسها بقدر ما أدت دورًا فعالاً فى حياة البشر، لتصير ومضات ضوء فى الحياة، وفكرًا ثريـًّا فى ضمير الإنسانية، ورموزًا لا تُنسى فى ذاكرة التاريخ الإنسانى. وهكذا عبَّر السيد رئيس «جُمهورية مصر العربية» «عبدالفتاح السيسى» عن فقيد «مَصر» والعالم الأستاذ الدكتور «بطرس بطرس غالى»، فقال: «إن «مِصر» والعالم أجمع فقدا اليوم قيمة وقامة سياسية وقانونية رفيعة، حيث أثرى الفقيد عبر مسيرته الطويلة السياسة الدّولية فكراً وعملاً… يظل الفقيد وعطاؤه الممتد، ومساهماته فى الفكر السياسىّ والقانونىّ، وما قدَّمه من إنجازات فى المناصب التى تقلدها، رمزًا للسياسىّ الوطنىّ الذى خدم بلاده بتفانٍ، وضرب مثلاً مشرِّفـًا لكل المِصريِّين على المستوى الدّولى».
رحلة حياته
وُلد د.«بطرس بطرس غالى» فى الرابع عشَر من نوفمبر عام ١٩٢٢م، لعائلة مِصرية مَسيحية جاءت أصولها من صَعيد «مِصر»؛ فوالده هو «يوسُف بطرس غالى»، ووالدته «آنا أصلنيان» (مصرية من أصول أرمينية). كان لعائلته دور كبير فى تاريخ «مِصر» السياسىّ على مدى عُقود طويلة جاءت بدايتها مع «الثورة العرابية»؛ فلقد قدَّمت العائلة عددًا من الشخصيات منها: الجَد الأكبر «غالى بك نيروز» ناظر تفاتيش الأمير «مصطفى فاضل» أخى الخديو «إسماعيل»، ثم أول رئيس وُزراء مِصرىّ مَسيحىّ وهو «بطرس باشا غالى» الذى تولى رئاسة الوزارة ١٢ /١١ /١٩٠٨-٢١/ ٢ /١٩١٠م، فى حِقبة تُعد من الحِقَب الصعبة فى التاريخ المِصرىّ الحديث التى شهِدت الاحتلال البريطانىّ لـ«مِصر»، ثم اغتيل على يد «إبراهيم ناصف الوردانى» فى ٢٠/٢/١٩١٠م.
شخصية أخرى قامت بدور سياسىّ ووطنىّ لا يمكن أن يُنسى من ذاكرة التاريخ: «واصف باشا بطرس غالى»، أحد أقطاب الوفد المِصرىّ الذين حُكم عليهم بالإعدام خلال أحداث ثورة ١٩١٩م، وزير الخارجية الذى رفض تسليم اللاجئين الطرابلسيِّين المقاومين للحكومة الإيطالية فى «ليبيا»، الذى امتد دوره إلى مفاوضات اتفاقية عام ١٩٣٦م بين «مِصر» و«بريطانيا»، الذى ساند الشعب الفلسطينىّ عام ١٩٣٧م فى «عُصبة الأمم» عندما طالب بحق الشعب فى تقرير مصيره.
أما «مريت بك نجيب غالى»، فقد كان له دور سياسىّ وإنسانىّ وثقافى، ظهر فى مساعدة الشعب الإثيوبىّ إبان ما تعرض له من مِحن، كما كان الفارس الذى أدى دورًا مهمـًّا فى تضييق هُوة الخلاف بين «الكنيسة القبطية» و«الكنيسة الإثيوبية»، ومشكلة «دَير السلطان» فى «القدس» وحُقوق الأقباط فيه. وهكذا نشأ د.«بطرس بطرس غالي» فى مُناخ يملؤه حب جارف للوطن ينعكس فى عمل دؤوب لا يتوقف لأجله؛ ليصبح أحد الأعلام المِصرية والعالمية.
«بطرس بطرس غالى»
حصل على ليسانس كلية الحُقوق «جامعة القاهرة» (فؤاد الأول آنذاك) عام ١٩٤٦م، ثم دبلوم فى كل من العُلوم السياسية والاقتصاد والقانون العام من «جامعة باريس»، أعقبها حصوله على الدكتوراه فى القانون الدولىّ من «جامعة باريس» عام ١٩٤٩م وكانت أطروحته عن دراسة المنظمات الإقليمية.
■ ١٩٥٤ -١٩٥٥م: كان عالمًا باحثًا بمنحة من «فولبرايت» بـ«جامعة كولومبيا».
■ ١٩٦٣ -١٩٦٤م: عمل مديرًا لمركز الأبحاث فى «أكاديمية لاهاى للقانون الدُّولي».
■ ١٩٦٧ -١٩٦٨م: عمل أستاذًا زائرًا بكلية الحقوق فى «جامعة باريس».
■ ألقى عديدًا من المحاضرات فى القانون الدّولىّ والعَلاقات الدُّولية فى عدد من الجامعات فى: «أفريقيا»، و«آسيا»، و«أوروبا»، و«أمريكا اللاتينية»، و«أمريكا الشَّمالية».
■ عام ١٩٦٥م كان رئيسـًا «للجمعية المِصرية للقانون الدُّولى».
■ 1971م- ١٩٧٩م: كان عُضوا فى اللجنة المعنية بتطبيق الاتفاقيات والتوصيات لـ«منظمة العمل الدُّولية».
■ 1974م-١٩٧٧م: عمل عُضوا فى اللجنة المركزية والمكتب السياسىّ «للاتحاد الاشتراكىّ العربى».
■ عام ١٩٧٥م كان رئيس «مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية» بالأهرام. وأسس مجلة «الأهرام الاقتصادى» التى تولى تحريرها ١٩٦٠-١٩٧٥م، ومجلة «السياسة الدولية الفصلية» التى تولى تحريرها حتى ديسمبر عام ١٩٩١م. وقد كتب عديدًا من المقالات فى الشُّؤون الإقليمية والدُّولية، والقانونية، والدبلوماسية، وعُلوم السياسة. كذلك وضع عدة كتب باللغتين العربية والفرنسية.
■ فى عام ١٩٧٧م، عُيِّن د.«بطرس غالى» وزيرًا للشُّؤون الخارجية؛ ليصحب الرئيس الراحل «أنور السادات» فى زيارته إلى «القدس»، وليقوم بدور كبير فعال فى مفاوضات الصلح بين «مِصر» و«إسرائيل»، وفى إتمام اتفاقية «كامب ديڤيد»؛ كذلك كان له دور بارز فى تقوية العَلاقات المِصرية الأفريقية.
■ ١٩٧٧ -١٩٩١م: كان وزيرًا للدولة للشُّؤون الخارجية.
■ عام ١٩٧٨م عُضو اللجنة العلمية «للأكاديمية العالمية للسلام» بمونتون فى «فرنسا».
■ عام ١٩٧٩م كان عُضوا مشاركـًا فى «معهد الشُّؤون الدُّولية» بروما.
■ ١٩٧٩-١٩٩١م: عمل عُضوا فى «لجنة القانون الدُّولى».
■ ١٩٨٧م كان عُضوا فى مجلس الشعب.
■ ١٩٩١م نائب رئيس الوزراء للشُّؤون الخارجية فى «مِصر».
الأمين العام للأمم المتحدة
كان نائبـًا لرئيس الاشتراكية الدُّولية، إلى أن تولى منصب الأمين العام للأمم المتحدة ١/١٩٩٢-١٩٩٦م، بعد أن تلقى مساندة كبيرة من «فرنسا»؛ ليصير سادس أمين عام للأمم المتحدة، وأول مِصرىّ عربىّ يتولى هذا المنصب، خلفـًا لـ «خافيير بيريز دى كويلار». وقد كانت حِقبة عصيبة، إذ سادت فيها الصراعات فى عديد من الدُّول مثل: «رواندا»، و«الصومال»، و«أنجولا»، و«يوغوسلافيا» السابقة.
لم يمتد شغله لمنصب الأمانة العامة للأمم المتحدة لمدة ثانية، نتيجة عدم الاتفاق بينه وبين الإدارة الأمريكية، التى استخدمت حق «الفيتو» بعد أن فشِلت فى إقناع الدُّول بالعدول عن دعمه لتولى مدة ثانية كأمين عام للأمم المتحدة. وتذكُر صحيفة «واشنطن بوست» أن خلافات د.«غالى» مع الإدارة الامريكية بشأن مطالب «واشنطن» بخفض ميزانية «الأمم المتحدة» حالت دون شغله لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة مدةً ثانية. ويُذكر أن استخدام «الولايات المتحدة الأمريكية» لحق «الفيتو» جاء بعد انتقادها له علانية، عقب نشره لـ«تقرير قانا» الذى كشف فيه عن المذبحة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى. وقد أطلق البعض عليه «المِصرىّ العظيم الذى جلس على كرسىّ السكرتير العام للأمم المتحدة، ولم يَنحنِ للتدخل الأمريكىّ فى عمله».
ترأس «منظمة الدُّول الفرانكوفونية» بعد عودته من «الأمم المتحدة»، ثم «المجلس الأعلى لحقوق الإنسان» فى «مِصر» حتى فبراير من عام ٢٠١١م.
وقد كان د.«بطرس بطرس غالى» عُضوا سابقـًا فى «لجنة الحُقوقيِّين الدّولية»، وفى «معهد القانون الدُّولى»، و«المعهد الدُّولىّ لحقوق الإنسان»، و«الجمعية الأفريقية للدراسات السياسية»، و«أكاديمية العُلوم الأدبية والسياسية الفرنسية». كذٰلك شارك فى عدد من الاجتماعات التى تناولت القانون الدّولى، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإنهاء الاستعمار، وقضية الشرق الأوسط، والقانون الإنسانىّ الدُّولى، وحُقوق الأقليات الإثنية والأقليات الأخرى، وعدم الانحياز، والتنمية فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتعاون الأفريقىّ العربى.
كذلك ترأس وُفودًا عدة لحضور اجتماعات «منظمة الوَحدة الأفريقية» و«حركة بُلدان عدم الانحياز»، و«مؤتمر القمة لرؤساء الدُّول الأفريقية وفرنسا»، ودوْرات الجمعية العامة فى أعوام ١٩٧٩ و١٩٨٢ و١٩٩٠م.
جوائز وأوسمة
■ نال د.«بطرس بطرس غالى» جوائز وأوسمة من ٢٤ بلدًا، وقُلِّد أيضـًا «وسام فرسان مالطا».
وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكس