نستكمل مقالاتنا التى ذكرنا بها أن «البابا خائيل» كان قد أُلقى القبض عليه ومعه «أنبا مُويسِيس» أسقف «أوسيم» وثلاث مائة آخرون، وفى ذلك الوقت كان رجل مَسيحى قد عُين للإشراف على مائدة الوالى وقد نال رضاه، فطلب إلى الوالى سماحًا بأن يزور البابا فى السجن ويُحضر إليه الطعام والملابس. وقد ذُكر فى مخطوط رقم «٢٨٧- تاريخ كنسى» محفوظ فى «المكتبة الأهلية» فى «باريس»: «… واعتُقل البطريرك، ووُضع فى عنقه طوق حديد، وأُلقى فى السجن شهرًا كاملًا ومعه ثلاث مائة رجل، ونساء أيضًا. وكان المرضى يأتون إلى باب السجن، فيبارك عليهم البطريرك فيبرؤون حتى المسلمين والبربر منهم. وكان على مائدة الملك رجل مؤمن خيِّر، يهتم بالأب البطريرك، ويفتقدنا، ويُجيب لنا فى السجن ما نحتاج إليه. وكانت كورة «مِصر» قد هلك أهلها من الظلم والخسائر والخَُراج (الإتاوة)». وقد ظل الأب البطريرك فى سجنه حتى أُطلق سراحه، وسادت روح الود والمحبة بينه وبين الوالى.
خرج الأب البطريرك ليَنعم ببعض السلام، فبدأ الاهتمام بأمور رعيته، وفى أثناء ذلك لقى هذا الأب مخالفات من بعض رعيته فرفضها ولم يقبلها: إذ حدث أنه قام بالصلاة فى «كنيسة الشهيدين سَرجِيوس وواخُس»، وعلِم أن بعضًا من الشعب لا يصوم قبل التناول دون اعتبار ذلك مخالفةً لقوانين الكنيسة، فأصدر منشورًا بمنع من يتقدم إلى التناول وهو غير صائم.
ولم يمر زمن طويل من السلام حتى قام عامل الخَُراج (جامع الضرائب) بزيادة الضرائب على القبط بدرجة كبيرة لا يقوَون عليها، بل شدد عليهم فى جمعها، ما جعلهم يثورون عليه ثورة عارمة تحولت إلى نوع من الحرب النظامية بين جيش القبط بقيادة «يؤَنِّس السمنودى» وبين جُنود الوالى بقيادة «مروان» بن الخليفة «مروان» الذى عُين قائدًا من قِبل أبيه على الجيش فى «مِصر». وقد دامت الصراعات والحرب عدة أيام انتهت بهزيمة القبط، بعد أن قاد أحدهم جُنود «مروان» ليلًا إلى خيمة «يؤَنِّس السمنودى»، فدخلوا الخيمة وقتلوه أثناء نومه، ثم أعلنوا النصر بدق طبولهم. فقام جُنود القبط ليجدوا أنفسهم محاطين بجُنود «مروان» وقائدهم قد قُتل، فازدادوا تصميمًا على الاستمرار فى القتال حتى هُزموا. ومات كثير من الرجال القبط فى تلك الليلة، حتى إن بعض المؤرخين قد ذكروا أنه: «… لم يخلُ بيت من قتيل أو جريح أو سجين».
ومع جميع تلك الصراعات والثورات التى مرت بالدولة الأُمَوية، قام «قسطنطين الخامس» إمبراطور القسطنطينية بالهجوم على الحُدود الشَّمالية لـ«سوريا»، مستغلًا ضعف أحوال الخلفاء الأُمَويِّين، فى حين كان «أبومُسْلِم الخُراسانى» يقوم بالاستيلاء على المدن واحدةً تلو الأخرى. وهرب «مروان» إلى «مِصر»، التى كانت فى حالة اضطراب عظيم بعد ثورة القبط وحربهم ومقتل قائدهم. وهنا يذكر المؤرخ «ابن التَّغْرِى»: ولما دخل «مروان» إلى «مِصر»، وجد أهل الحوف الشرقى من بلاد «مِصر» وأهل «الإسكندرية» و«الصَّعيد» قد صاروا مُسَوِّدة- أعنى صاروا من أعوان بنى «العباس» ولبِسوا السواد. فعزم «مروان» على تعدية النيل، فعدَّى إلى «الجيزة» وأحرق الجسرين والدار المذهَّبة، وبعث بجيش إلى «الإسكندرية»، فاقتتلوا هم ومن كان بها بـ«الكريون» (موضع بالقرب من «الإسكندرية»)، وبينما هو فى ذلك، خالفت الأقباط، فبعث إليهم «مروان» من قاتلهم أيضًا وهزمهم، ثم بعث جيشًا إلى «الصعيد».
وكان عند وصول «مروان» أنه قد تصدى لثورة أخرى من «البَِشْمُوريِّين» ضد جند الخليفة، إلا أنهم لم يجعلوها فى هيئة الحرب النظامية، وكان رئيسهم يُدعى «مينا بن بُقَيرة»، فكانوا يقتلون جند الوالى وينهبون ليلًا ويختبئون نهارًا. وقد حاول «مروان» مفاوضة «البَِشْمُوريِّين» إذ كانت قوات «العباسيِّين» تتقدم إلى «مِصر»، لٰكنهم أصروا على القتال، كذلك واجه أيضًا ثورة والى «الإسكندرية» وعصيانه وإعلانه استقلاله بحكمها، فأرسل الخليفة جيشًا انتصر على الثورة فى «الإسكندرية» وقتل عددًا كبيرًا من أهلها. وفى ظل تلك الأحداث والاضطرابات، ألقى الخليفة القبض على «البابا خائيل» مع كبار القبط، وطلب منهم مبلغًا كبيرًا من المال لم يتمكنوا من دفعه، ولامهم بشدة على ثورة «البَِشْمُوريِّين»، وأمر بإلقائهم فى السجن. خشِى القائد «حَوثَرة»، أحد قواد الخليفة، أن تزداد هجمات «البَِشْمُوريِّين» على جند الوالى، فقام بفك قُيود «البابا خائيل» وأخذه إلى «رشيد» حيث طلب منه كتابة خطاب إلى «البَِشْمُوريِّين» يصف لهم ما ناله من أذًى بسببهم، علَّهم يتوقفون عن هجماتهم، لكنهم لم يلبثوا أن زادوها حين علِموا بما أصاب بطريركهم.
وفى ظل تلك المعارك والاضطرابات من «البَِشْمُوريِّين» وأهل «الإسكندرية»، وصلت أخبار بدُخول القوات العباسية إلى الأراضى المِصرية. فقام «حَوثَرة» بإرسال «البابا خائيل» إلى «الفسطاط» مع أحد قواده، فكانت العودة عن طريق النيل فمرت بـ«أوسيم» وانضم إليه «أنبا مويسيس»، وسكرتير البابا، وقارئ من «دير أنبا مقاريوس»، مع رجل من «بلبيس».
ومع اقتراب قوات الجيش العباسى، قرر «مروان» حرق «الفسطاط»، وأمر أهلها بمغادرة المدينة فى خلال ثلاثة أيام، فخرجوا مسرعين بعد أن أصابهم فزع شديد، وقد تزاحموا على المراكب للهرب إلى «الجيزة» و«الجزيرة» ما سبَّب غرق عدد كبير منها. أمّا مصير المرضى والمقعدين والمكفوفين الذين لم يتمكنوا من ترك المدينة، فكان الموت مع ألسنة النيران المتصاعدة. وبعد حرق «الفسطاط»، أخذ «مروان» مركبًا إلى الضفة الغربية من «النيل» ليكون فى مأمن من أعدائه، وأمر باصطحاب «البابا خائيل» ومن معه وجعلهم قرب خيمته، فى الوقت الذى وصل فيه جيش «العباسيِّين» إلى الضَِّفة الأخرى من «النيل» مقابل الخليفة «مروان» ورابضوا فيها، وكان نهر «النيل» يفصل بين الجيشين.
وعلى ضفة نهر «النيل»، كان الخليفة يأتى بالبابا البطريرك ومن صحِبوه فى آلامه وسَِجنه ويسخر بهم، ويأمر بنتف لُحاهم، وتركهم فى العراء تحت أشعة الشمس الحارقة أمام الجيشين والشعب!! حتى إن المِصريِّين جميعًا، أقباطًا ومسلمين، بكَوا عندما رأَوا ما يتعرض له البابا ورفاقه من عذابات شديدة. وتذكر بعض المراجع الكنسية أن جيش «العباسيِّين» كان يشاهد تلك العذابات الشديدة: «وكان المِصريُّون وجيش (أبى العباس) يشاهدون ذلك بغيظ شديد، وكانوا يتمنَّون لو أنهم يجدون مراكب يعبرون بها النهر ليقتصَّوا من (مروان) على هذا الظلم الفظيع». وبعد ثلاثة أيام أرسل الخليفة «مروان» فى طلب «البابا خائيل» ومن معه، وقدمهم إلى قائد له اشتُهر بقساوته الذى أخذ يُعد آلات التعذيب لهم! فما كان منهم سوى أن بدأ بعضهم يصلى من أجل بعض، فى استعداد لاستقبال الموت! وقد أثر هذا المشهد فى كل من رآه، وعندئذ بدأ الابن الأكبر لـ«مروان» ويسمى «عُبيد الله» يطلب إلى أبيه ألا يدعهم يُقتلون، قائلًا: «تمهل يا أبى قبل أن تمَس هؤلاء الرجال بأذًى! فنحن الآن فى ضيق عظيم، وقد نُضطر إلى الهرب إلى (السودان). والسودانيُّون أولاد رُوحيُّون لهذا الشيخ الوقور، فإن قتلتَه أو ألحقتَ به الأذى، فإن السودانيِّين سيرفضون حتمًا إيواءنا، بل قد يعمدون إلى الأخذ بالثأر منا»، فاقتنع «مروان» وأعادهم إلى الحبس مرة أخرى، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى