كل عام وإخوتنا المسلمون بخير بمناسبة رأس السنة الهجرية التى يحتفل بها اليوم، والتى تتزامن مع احتفالات المصريين جميعًا بانتصارات أكتوبر المجيدة التى هى وسام على صفحات التاريخ المِصريّ، إذ قدمت للعالم حقيقة المِصريّ الذى لا تَحنيه الكبوات، بل تشحذ من عزيمته وإرادته ليصنع منها انتصارات تتلألأ على جبين التاريخ الإنسانيّ. وعندما نتكلم عن انتصارات أكتوبر، تغمرنا مشاعر من السعادة والافتخار بكل مِصريّ ساهم فى صنع النصر. وأود أن أتحدث عن أكتوبر فى عُيون العالم.
تغيير العالم
منذ فجر التاريخ، و«مِصر» تُثبت أنها قادرة على تغيير التاريخ ونظرة العالم فى المِصريِّين وفيها. فمع انطلاقة جيشها فى «حرب أكتوبر»، وما سبقها من إعدادات من بَدء حرب الاستنزاف، والعالم تغير! يذكر الكاتب «آن كلود جيبوه»: «هل كان يتصور «أنور السادات»، وهو يُطلق فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر دباباته وجُنوده لعبور «قناة السويس»، أنه أطلق قوة عاتية رهيبة من شأنها أن تغير هٰذا العالم؟! إن كل شيء من «أوروبا» إلى «أمريكا»، ومن «آسيا» إلى «أفريقيا»، لم يبقَ على حالته التى كان عليها، منذ حرب يوم عيد الغفران. إلا أن هٰذا الانقلاب المروع فيما يتعلق بـ«إسرائيل» قد اتخذ شكل الزلزال المدمر!! ذٰلك أن الحرب التى عصفت بها كانت قاسية عليها فى ميادين القتال، ثم كانت أشد من ذٰلك دمارًا على الناس هناك، فقد شهِدوا مصرع حُلم كبير هوى!! ورأَوا بعد ذٰلك صورة معينة من «إسرائيل» وهى تزول إلى الأبد.». كما كتبت صحيفة «ديلى تلجراف» بـ«القاهرة»، بيد مراسلها «هارولد سييف»، فى يوم التاسع والعشرين من أكتوبر عام ١٩٧٣م: «لقد غيرت الساعات الست الأولى من يوم السادس من أكتوبر ـ عندما عبر الجيش المِصريّ «قناة السويس» واقتحم «خط بارليف» ـ مُجرى التاريخ بالنسبة إلى «مِصر»، وبالنسبة إلى الشرق الأوسط».
قدرة المِصريّ
تميز العقل المِصريّ بقدرات فائقة تلمّس العالم آثارها على مدى عصور التاريخ؛ فقد قدمت «مِصر» للعالم الحضارة والاختراعات والإنجازات العلمية فى وقت السلم، وعبرت العقلية المِصرية عن تفوقها وقدرتها وعظمتها فى أوقات الحروب. وفى حرب أكتوبر، استطاع العقل المِصريّ أن يخدع العدُو، وعلى سبيل المثال: استطاع أن يوهمه بأنه لن تكون حرب، فيذكر «إيلى زاعيرا» رئيس شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيليّ قبل بداية الحرب: «إن «مِصر» مشوشة وغير مستعدة إلى حد كبير لشن هُجوم على «إسرائيل».»؛ ثم يعود ويكتُب فى مذكراته عن «حرب عيد الغفران»: «إن السبب الأساسيّ فى الهزيمة هو وصول معلومات تم نقلها مباشرة إلى رئيس الوزراء، ودون تحليل من المخابرات على أساس أنها موثوق بها، وأنا اعتقد أن تلك المعلومات المضللة هى من تخطيط المخابرات المِصرية، وأنها كانت جزءًا من خُطة الخداع والتموية المِصرية التى تم تنفيذها استعدادًا للمعركة.»؛ كذٰلك ظهرت تلك القدرات البارعة فى التخطيط والعمل واتخاذ القرارات فيذكر «موشيه ديان» وزير الدفاع الإسرائيليّ: «إن «إسرائيل» تواجه، وفى أول مرة من عام ١٩٤٨م، حربًا هجومية تقترن بخُطة مدروسة وتوقيت محْكم».
اتحاد العمل
كان من أهم أسباب انتصار «حرب أكتوبر» هو الوَحدة من أجل هدف واحد: هو تحقيق النصر؛ ومن خلال تلك الوَحدة كان الانتصار. فكتبت جريدة «تايمز» تقول: «إن العرب حققوا الانتصار، وبرهنوا على أن قوتهم تستطيع أن تقاتل، وأن تستخدم الأسلحة المعقدة بنجاح كبير. كذٰلك فإن القادة العرب أثبتوا أنهم يقودون ببراعة.». وذكر الچنرال الإسرائيليّ «يشيعيا جافيتش» فى إحدى الندوات عن «حرب أكتوبر» ـ التى أقيمت بـ«القدس» فى عام ١٩٧٤م: «بالنسبة إلى «إسرائيل»، ففى نهاية الأمر انتهت الحرب دون أن نتمكن من كسر الجُيوش العربية. لم نُحرز انتصارات. لم نتمكن من كسر الجيش المِصريّ أو السوريّ على السواء. ولم ننجح فى استعادة قوة الردع للجيش الإسرائيليّ. وإننا إذا قيمنا الإنجازات على ضوء الأهداف، وجدنا أن انتصار العرب كان أكثر حسمًا. ولا يسعنى إلا الإعتراف بأن العرب قد أنجزوا قسمًا كبيرًا إلى مدًى بعيد من أهدافهم، فقد أثبتوا أنهم قادرون على التغلب على حاجز الخوف والخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة، كما أثبتوا أيضًا أنهم قادرون على اقتحام مانع «قناة السويس». ويا لأسفنا الشديد: فقد انتزعوا القناة من أيدينا بقوة السلاح!».
شجاعة الأُسود
قدمت «حرب أكتوبر» المِصريّ ـ كما قدم التاريخ المِصريّ فى كل حِقبة من حِقبه ـ نموذجًا للشجاعة النادرة التى طالما بَهَرت العالم؛ فيذكر «أرنودى يورشغريث» مراسل جريدة «نيوزويك» عن «حرب أكتوبر» التى قضّاها بالقرب من «السويس»: «ما شاهدتُه فى جبهة «السويس» لم أشاهده فى اثنتَى عشْرة حربًا»!! وفى الثالث من ديسمبر من عام ١٩٧٣م، قال «داڤيد أليعازار» رئيس الأركان الإسرائيليّ: «ما يزال «شارون» يواصل تصريحاته غير المسؤولة للصحفيِّين، محاولاً أن ينتقص من جميع القادة؛ ليظهر هو فى هيئة البطل الوحيد؛ هٰذا على الرغم من أنه يعلم جيدًا أن عُبورنا إلى الجانب الغربيّ من القناة كلفنا خسائر فادحة؛ ومع ذٰلك فإننا لم نستطِع طوال عشَرة أيام من القتال أن نُخضع أيّ جيش من الجُيوش المِصرية.».
وقد كانت لتلك الشجاعة النابعة من حب المِصريّ لبلاده، وإيمانه بالدفاع عنها، أن تبددت جميع الادعاءات التى حاول العدُو أن يغرسها ويؤصلها فى فكر العالم؛ فقد استطاعوا تحطيم «الخط الذى لا يُقهر» و«الجيش الذى لا يُقهر»، وقدموا درسًا قاسيًا لا يُمحى من الذاكرة، فكتبت «جولدا مائير» رئيس وزراء إسرائيل آنذاك فى كتاب «حياتي»: «إن المِصريِّين عبروا القناة، وضربوا بشدة قواتنا فى «سيناء»، وتوغل السوريُّون فى العمق على «مرتفعات الجولان»، وتَكلفنا خسائر جسيمة على الجبهتين. وكان السؤال المؤلم فى ذٰلك الوقت هو: أكنا نُطلع الأمة على حقيقة الموقف السيئ أم لا، فى مجال الكتابة عن «حرب يوم الغفران»، لا كتقرير عسكريّ، بل ككارثة قريبة، أو كابوس مروع ـ قاسيتُ منه أنا نفسى وسوف يلازمنى مدى الحياة؟!». وذكر «عساف ياجوري» قائد لواء مدرعات، فى مقالة نُشرت له بصحيفة «معاريف» الإسرائيلية فى ٧/٢/١٩٧٥م: «حائر أنا، حيرتى بالغة: كيف حدث هٰذا لجيشنا الذى لا يُقهر، وصاحب اليد الطولى، والتجرِبة العريضة؟! كيف وجدنا أنفسنا فى هٰذا الموقف المخجل؟! أين ضاعت سرعة حركة جيشنا وتأهبه الدائم؟». وظلت تساؤلاته وتساؤلات العالم تُطرح وتَجرى بحثًا عن إجابات ضلت الطريق وسْط شجاعة الأسود!! وهٰكذا تحطمت الأساطير يومًا بعد يوم!! كذٰلك ذكرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية: «إن كل يوم يمر لَيحطم الأساطير التى بُنيت منذ انتصار «إسرائيل» عام ١٩٦٧م. وكانت أسطورة أولاً تقول إن العرب ليسوا محاربين، وأن الإسرائيليّ «سوبرمان»، لٰكن الحرب أثبتت عكس ذٰلك!».
كفاءة واقتدار
أظهرت «حرب أكتوبر» كفاءة رجالها وأبطالها التى شهِد لها الجميع بل الأعداء أيضًا؛ فيقول الخبير العسكريّ «دور ميدلتون»: «إن القوات الجوية المِصرية قد ظهرت على مستوًى عالٍ بطريقة لم تكن متوقعة على الإطلاق!! حيث أظهر الطيارون المِصريُّون أنهم لا يفتقرون إلى الجسارة والإقدام، كما أظهرت الأطقم الأرضية العربية قدرتها العليا على تشغيل أسراب طيران حديثة مثل »ميج ٢١« وإدارتها فى ظروف القتال الصعبة.». وذكر «أورى يوسف أوار» ملازم أول طيار إسرائيليّ: «لقد أذهلنا المستوى الممتاز للطيارين المِصريِّين، وكفاءتهم القتالية العالية.».
إن نصر أكتوبر المجيد يظل فى ذاكرة التاريخ وحاضره ومستقبله يُلهم قواتنا المسلحة بالانتصارات والإنجازات، لا فى مجال الدفاع عن البلاد والحروب فقط بل فى مجالات العمل والبناء وتحقيق الازدهار والتقدم. كل عام ومِصر والمِصريُّون بخير.
وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ