تحدثنا فى المقالة السابقة عن محاولات الغرب لإدارة قناة السويس التى رفضتها السلطات المِصرية رفضًا قاطعًا، وبيان وزير الخارجية الأمريكى «دالاس» الذى قدم مشروع قرار يطالب فيه بتكوين هيئة دُولية لإدارة القناة، وتقديم الدول الصديقة لمِصر مشروعًا آخر يحفظ سيادة مِصر، إلا أن مشروع «دالاس» حصل على 18 صوتًا فى مقابل أربعة أصوات رفضته.
وفد للقاء الحكومة المِصرية
وفى الـ22 من أُغسطس 1956م، فى جِلسة المؤتمر، اقترح وزير خارجية نيوزيلندا «توماس ماكدونالد» تكوين لجنة من ممثلى دول: أستراليا، وإثيوبيا، وإيران، والسويد، والولايات المتحدة الأمريكية، برئاسة رئيس الوزراء الأسترالى «روبرت مينزيس»، لعرض نتائج مؤتمر لندن والمشروع الأمريكىّ للحكومة المِصرية لمعرفة موقفها منه، والموافقة على بَدء مفاوضات بشأن تنفيذه. ثم اختتم المؤتمر أعماله فى اليوم التالى.
مِصر ترفض مشروع الــ18
وفى الثالث من سبتمبر التقى الرئيس المِصرى «جمال عبدالناصر» أعضاء اللجنة التى أطلق عليها «لجنة السويس». ويذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه اقترح على الرئيس ألا يلتقى اللجنة حول مائدة محادثات، وإنما يكون اللقاء فى مكتبه فى قصر القبة، ويكون جالسًا على مكتبه واللجنة أمامه فى حجرة المكتب، ما يُعطى اللجنة الانطباع أننا لا نفاوضها، وإنما نستمع إلى ما يقال. وبالفعل أخذ الرئيس بذٰلك الاقتراح.
عرض «مينزيس» الطلب الأول الذى يتعلق بتغيير فى خريطة الدول العظمى، وأشار إلى أن اتفاقية القسطنطينية أعطت الدول العظمى المستعملة لقناة السويس حقوقًا، إلا أن تركيبة الدول العظمى تغيرت، فقد أصبحت الولايات المتحدة محل «الهابسبورغز» العائلة الإمبراطورية النمساوية فى ضمان حرية قناة السويس. وجاء المطلب الثانى عن وجوب عزل قناة السويس عن سياسة أىّ بلد بمفرده، أىْ عزلها عن مِصر مع أنها جزء لا يتجزأ من الأراضى المِصرية. كذٰلك ناقشوا أمر تحصيل رُسوم القناة.
وقد تحدث الرئيس إلى اللجنة بعد الاستماع إلى المطالب المعروضة. وذكر الأستاذ هيكل أن رد الرئيس تعرض لحقوق المستعملين، وأن مِصر تُدرك مصلحة العالم فى: صيانة قناة السويس، وسلامة المرور فيها، وأمنها. وذكر الرئيس أن تلك الأمور توفرها الدولة التى تقع القناة فى أراضيها، وأن مِصر على أتم الاستعداد للاستماع إلى أىّ ملاحظات يُبديها العالم بشأن القناة. كذٰلك أشار إلى مشروعات تُعدها مِصر لتطوير القناة وتوسيعها مع قبول أىّ مقترحات بهٰذا الشأن. وأكد أن الشعب المِصرىّ هو من تحمل مصاريف حفر القناة، وأنها عادت إلى أصحابها. وطلب منهم أن يناقشوا ما لديهم من أمور تحقق مصالحهم إنما بإدارة مِصرية. وقد رفض الرئيس عزل القناة عن سياسة الدولة المِصرية التى تعى أهمية محافظتها على القناة مفتوحة للعالم دون أن تمنع أحدًا إلا طرفًا واحدًا، متحاربة هى وإياه، وهو إسرائيل. وقد رفض أمر دفع رُسوم المرور فى القناة لأى جهة أخرى سوى مِصر.
ثم تعددت الاجتماعات بين «مينزيس» ولجنته بالسلطات المِصرية، وجرى فيها استعراض ما توصل إليه المؤتمر من مقترحات. وقد استخدم رئيس اللجنة أسلوبًا يحمل تهديدًا باستخدام القوة العسكرية للقوات الإنجليزية والفرنسية. وقد احتدت المناقشات بين اللجنة والرئيس «عبدالناصر» فى استحالة فصل القناة عن السياسة المِصرية، إذ إن القناة هى فى أرض مِصر وخاضعة لحكومتها منذ إنشائها. ومع إحساس الرئيس بلهجة التهديد المستخدمة، اتخذ القرار بإنهاء الموقف، فأغلق الملفات، وأعلن رفض مِصر لمشروع «دالاس»، معلنًا أن المشروع ما هو إلا نوع من أنواع الاستعمار، وأكد أن قناة السويس هى قناة مِصرية، لن تكون دُولية بأى وسيلة من الوسائل.
وفى السابع من سبتمبر 1956م، أرسل «مينزيس» رسالة إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» جاء فيها: «إن المناقشات كشفت عن اختلاف عميق فى وجهات النظر تجاه المبادئ والاتجاهات، ما يدعو إلى القول بعدم جدوى استئناف المناقشات. ولمّا كانت مباحثاتنا قد جرت على انفراد دون أن تدوَّن، ودون رسميات، ولتفادى أيّ سوء تفاهم مستقبلًا.. لذٰلك نرى من المفيد أن تدوِّن اللجنة أعمالها فى قالب موضوعىّ مختصر:
1. عرض مقترحات الدول الثمانية عشْرة.
2. إن مقترحات الـ18 افترضت أن التأميم قد تم فعلًا.
3. إن ما ذكره الرئيس من اعتقاد أن القناة لا يمكن أن تنفصل عن سياسة مِصر.. يعنى أن الدول الكثيرة التى تنتفع بالقناة سيتعين عليها إدراك الحقيقة، وهى أن تجارتها الخارجية ستكون فى أىّ وقت خاضعة لقرارات مِصر وحدها، ثم إن الرُّسوم ستَزيد وَفقا لمقتضيات الميزانية المِصرية.
4. إن الرئيس يتمسك فى صلابة بوِجهة نظره التى تقول إنه لا محل لسلطة لها الصفة الدُّولية فى القناة، ومِصر قادرة على توجيه مستقبل القناة وضمانه. ورَدُّ اللجنة أن القناة تحتاج إلى خِدْمات موظفين من ذوى المهارة العالية والخبرة.. وهناك عدد كبير من رعايا الدول الأخرى يحتلون المراكز الرئيسية. ولا يمكن كفالة استمرارهم ما لم تكُن هناك ثقة متبادَلة بين الذين يُديرون القناة، أى الحكومة المِصرية، وبين المنتفعين بالقناة.
5. إن حجم المرور فى القناة قد يتضاعف فى السنوات القادمة، ولٰكن ذٰلك يتوقف فى النهاية على ثقة مستخدمى القناة بإدارتها.
6. إن إقامة هيئة دُولية لقناة السويس ليست سيطرة أجنبية إذا قبلتها مِصر بمنطلق حريتها.
7. إن صلة الهيئة المقترحة بالأمم المتحدة تجعلها كالبنك الدُّولىّ وَكالة متخصصة، وصلته بالأمم المتحدة لا تؤثر فى حريته فى إدارة أعماله، كما أن هٰذا النظام يدعم الثقة والأمن الدُّوليَّين.
8. إن اقتراح اللجنة يؤدى إلى تخفيف حدة التوتر الخطير الذى يسود العالم الآن، على أساس ترضى عنه الدول المنتفعة بالقناة، ويتفق وكرامة مِصر واستقلالها ومكانتها، وبذا يتم الإسهام فى تسوية سلمية للمشكلات الدولية.
وفى التاسع من سبتمبر، رد الرئيس «جمال عبدالناصر» على رسالة «مينزيس» مؤكدًا: موقف مِصر خلال المباحثات التى جرت، وحق مِصر فى التأميم، واستعدادها لعقد اتفاقية جديدة تكفل حرية الملاحة فى القناة، وكذٰلك شدد على حرص مِصر على استمرار الملاحة فى قناة السويس بنظام وكفاءة متميزة، مع أن هناك تهديدات من بريطانيا وفرنسا باستخدام القوة، وتحريض المرشدين على ترك عملهم فى القناة لإظهار عدم قدرة مِصر على إدارتها، وأن ما طرحه مشروع مؤتمر لندن لا يعنى إلا الاستيلاء على إدارة القناة وهو ما يُعد انتهاكًا وعدوانًا على حقوق الشعب المِصرىّ وسيادته على أراضيه. وأعلن «عبدالناصر» أن مِصر وسياستها تضمنان حرية الملاحة دون تمييز، كما أنها تعمل على تحسين القناة، مع فرض رُسوم عادلة، وأن إدارتها ستكون على أعلى كفاءة.
وفى التاسع من سبتمبر، عاد «مينزيس» إلى لندن ليقدم تقريرًا عن المحادثات والمشاورات التى جرت فى مِصر، وذكر فى لقاء للصُحُفيِّين البريطانيِّين: «إن مِصر لن تشارك فى أىّ عمل سلمى لمشكلة القناة». وفى العاشر من سبتمبر اجتمع إلى «إيدن» لتقديم تقرير مفصل عن محادثات السلطات المِصرية، التى تخلُص إلى أن «عبدالناصر» لن يتراجع عن موقفه، وأن السبيل الوحيد هو كسره وإرغامه على تغيير موقفه بالقوة!
محاولات تعطيل الملاحة وسحب المرشدين
بدأت محاولات تعطيل الملاحة فى قناة السويس بعد قرار تأميمها، فقد بدأت التحريضات للمرشدين بالامتناع عن العمل، لوقف الملاحة فى القناة، وتعريض مِصر لمأزِق أمام العالم بعدم قدرتها على إدارتها. وقد اكتُشفت رسائل من مدير شركة قناة السويس إلى المرشدين بالامتناع عن العمل مقابل حصولهم على راتب ثلاث سنوات! ومع إدراك مِصر لتلك المحاولات، بعملها إعلانات فى صحف غالبية الدول البحْرية لطلب مرشدين، إلا أن بريطانيا وفرنسا قامتا بالضغط على الصحف بعدم نشر الإعلانات المِصرية، والتأثير فى بعض الحكومات برفض طلب مِصر.
ومع نهاية أُغسطس، أعلنت مِصر أن معدل مرور السفن اليومىّ فى القناة، فى ظل التأميم والإدارة الجديدة، قد ارتفع من 42 إلى 44 سفينة، ما أدى إلى مزيد من ضغط بريطانيا وفرنسا على المرشدين؛ فقد أبلغتا المرشدين صريحًا أن استمرارهم فى وظائفهم سيؤدى إلى فقدانهم معاشاتهم.
وفى الـ11 من سبتمبر قرر «چى موليه» و«إيدن» توجيه طلب إلى شركة قناة السويس باسترداد مرشديها من العمل فى القناة، لتعطيل سير الملاحة فيها، حتى يتمكنا من إيجاد مبرر لغزو مِصر. وقد تمكنت الاستخبارات المِصرية من الحصول على صورةِ وثيقة من الحقيبة الدبلوماسية الفرنسية توضح تخطيطًا لإيقاف الملاحة فى القناة ليلة الـ15/14 من سبتمبر، وإثارة الرأى العام العالمىّ على مِصر، وإظهار عدم قدرتها على إدارة القناة، ما يستدعى التدخل البريطانىّ الفرنسىّ، وذٰلك بوقف جميع العاملين الأجانب فى الشركة، وفى الوقت نفسه إرسال 60 سفينة تِجارية للمرور فى القناة. وفى الـ12 من سبتمبر…
عن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى..!