منذ أن بدأنا رحلتنا الطويلة عن مِصر فى سلسلة مقالات «مصر الحلوة» ونحن نبحث ونفتش تاريخنا لنقدمه إلى قارئنا العزيز سهلاً ميسوراً، وليكون شاهداً لتاريخها العريق، مستخدمين المراجع العلمية، واستطعنا ـ بمعونة الله ـ تجميع مادة تاريخية كانت سنداً قويـاً فى المقالات. ومع ما وجدناه من مصادر لإلقاء الضوء على ما آل إليه الشرق، وبخاصة مِصر، بعد انقضاء ما يقرب من سبعة قرون كانت من أطول حُقب تاريخنا وأسوَئها، صارت مِصر ولاية رومانية، كما ذكرنا فى مقالة «مصر الحلوة 18»، إثر معركة غرامية فاشلة.
بدأت تلك المرحلة بحكم الملكة «كليوباترا» فى حماية «يوليوس قيصر»، إلى أن اغتيل فخلفه فى إدارة الإمبراطورية الرومانية ثلاثة قواد هم: «أوكتافيوس»، و«أنطونيوس»، و«ليبدوس». وقد وقع أمر إدارة شؤون المملكة فى الشرق على عاتق «أنطونيوس»، الذى ما ان رأى «كليوباترا» حتى أحبها ثم تزوجها فيما بعد. وبدأ النزاع بين «أنطونيوس» و«أوكتافيوس» بسبب ترك «أنطونيوس» لزوجته «أوكتافيا» أخت «أوكتافيوس» وتزوجه «كليوباترا». فما أن ضم «أنطونيوس» بعض الولايات الرومانية إلى الإسكندرية، وأقام ابنيه «إسكندر» و«بطليموس» ملكين، تحقيقـاً لرغبة «كليوباترا»، حتى شكاه «أوكتافيوس» إلى مجلس شيوخ روما بتبديده أملاك الإمبراطورية الرومانية. فعُزل «أنطونيوس» وأُعلنت الحرب على مِصر، وانتهت بانتصار «أوكتافيوس»، وانتحار كل من «أنطونيوس» و«كليوباترا» بعد فشلها فى استمالة «أوكتافيوس». وبموت «كليوباترا» أصبحت مِصر ولاية رومانية.
ظلت مِصر تعانى تحت الحكم الرومانى قرابة سبعة قرون تُعد من أسوأ المراحل التى مرت بشعبها. فقد كانت مِصر هى المصدر الأساسى للقمح والغلال، إضافة إلى المال الذى كانت تدفعه سنويـاً إلى الإمبراطورية الرومانية ما أرهق اقتصادها بدرجة كبيرة. ومع أن هنالك بعض الفترات لأباطرة عادلين مثل الإمبراطور «طيباريوس»، الذى عنَّف حاكم مِصر لجمعه وإرساله ضرائب زائدة على المقرر، فأرسل إليه برسالة تقول: «أما بعد، فإنى لا أشتهى من الراعى إلا تسمين ما يرعاه، ولا أَرضَى منه أن يذبحه، فتأمَّلْ». وتوقف الحاكم عن طلب مزيد من المال، إلا أن السواد الأعظم من الأباطرة كان يسلبٌ ما يمكنه من خيرات البلاد المِصرية. ويُجمع المؤرخون على أن سياسة الرومان الاقتصادية فى مِصر كانت تهدُف إلى تحقيق أعلى فائدة لهم، فيذكر الأستاذ «أحمد كمال» فى كتابه: «وأصبحت مِصر مستعمرة بمعنى الكلمة، وعاملت روما شعب مِصر على أنه شعب مغلوب مقهور، ومنحت اليونانيِّين واليهود امتيازات فى مِصر. وفى المقابل، حُظر على المِصريين حمل السلاح، وعقوبة حيازته الإعدام. واتسم الحكم الرومانى بفداحة الضرائب والتعسف فى الجباية. وعاش المِصريُّون قرونـاً معيشةً ضنكـاً حتى خَرِبت البلاد اقتصاديـاً واجتماعيـاً».
ويحمل التاريخ لنا صوراً مريعة لما كان يفعله المُوْكَل إليهم جمعُ الضرائب من الشعب أفعالاً تفوق حد التخيل والوصف للحصول على تلك الأموال. فقد كانوا يُلقون القبض على أقارب غير القادرين على الدفع، وينكلون بهم لدفع الأموال. ووصل الأمر إلى عدم رحمة ليس الأحياء فقط بل الموتى أيضاً، إذ كانوا يتحفظون على جثة من لم يسدد ضرائبه إلى أن يسددها عنه ذووه!! هذا إضافةً إلى تحميل الشعب بحاجات الحاميات الرومانية بكل ما يلزمها، وهى عبارة عن 30 ألفاً مكونة من 3 فرق وقوات مساعدة، فكان يئن تحت وطأة القسوة والإهمال والضرائب الباهظة. ويذكر د. إبراهيم نصحى: «… كان المزارعون يهربون من ضريبة الرأس والسخرة، ويحتمون فى الأدغال والمستنقعات، حتى إن بعض القرى هجرت بأكملها تقريباً».
وهكذا عاشت مِصر اضمحلالاً اقتصادياً ازداد سوءاً مع مرور الأيام بسبب أعباء الضرائب المتزايدة على المِصريين، ما أفرز عنه ثورات شعبية على الحكم الرومانى المتعسف. وكانت الثورات تُخمد بالقوة والعنف والقهر عندما يرسل الأباطرة جيوشهم، وكان بعض منهم يصطحب القوات لمحاربة الثائرين، وقد عرضنا لها فى مقالاتنا السابقة. ويذكر «هـ. آيدرس بِل» عن حالة مِصر الاقتصادية إبان القرن السادس الميلادى أنها كانت تنقسم إلى طبقتى الأغنياء وشديدى الفقر، فيقول: «إن أبرز ظاهرة عن مِصر وقتئذ أنها كانت بلداً ينقسم مجتمعه إلى نبلاء شبيهين بنبلاء الإقطاع، وفلاحين أنصاف عبيد».
كذلك شهِدت مِصر فتناً وثورات عديدة نشِبت بين اليهود والمِصريين فى تلك المدة التاريخية. وكانت دائماً محاولات لإحداث الفتن والوقيعة بين الحكام والمِصريين، ومنها محاولة استمالة اليهود للرومان ضد المِصريين ما أدى إلى حدوث ثورة بالإسكندرية ضد اليهود أُريق فيها دماء كثيرة. وقد اعتاد اليهود أن يقفوا فى جانب العدو القادم على بلاد الشام ومِصر لمحاربة المَسيحيين وتخريب كنائسهم، مثلما حدث إبان غزو الفرس، كما ذكرنا فى المقالة السابقة.
ونال المِصريين شدائد عظيمة من الأباطرة الرومان الوثنيين، اشتدت على أزمنة متباينة. إلا أن ذُِروتها كانت فى عصر الإمبراطور «دقلديانوس» وشريكه فى الحكم «مكسيميانوس» عندما شهِدت الأراضى المِصرية سفكاً لدماء آلاف من أبنائها. ولم يكَد المِصريون يتنفسون الصعداء بتحول الإمبراطورية إلى المَسيحية، حتى بدأ خلاف آخر يدُب بعد ميل الأباطرة إلى الإيمان الخَلقِيدونى واضطهادهم لمن يخالفهم المعتقد، لتبدأ عصور أخرى من الاضطهادات والموت والدماء. ويحكى لنا التاريخ عن البابا «ديسقوروس»، الخامس والعشرون فى بابوات الإسكندرية، أنه خالف معتقد الإمبراطور «مَرقيان» التابع لإيمان مجمع خلقدونية عن طبيعة السيد المسيح. إلا أن بعض الأساقفة وافقت الإمبراطور على معتقده خوفاً من بطشه بهم، فكتبوا كتاباً يُقرون فيه بإيمان الإمبراطور. أمّا البابا «ديسقوروس» فظل غير موافق الإمبراطور على معتقده هو وستة أساقفة آخرون، وطلب كتاب الأمانة الذى أقره الأساقفة. ثم كتب إيمانه هو، وأوقع عليهم حرمانا هم وكل من يخرج عن الإيمان السليم. وعندما علِم الإمبراطور غضِب غضباً شديداً، وثار على البابا «ديسقوروس» وقرر قتله. وأخيراً أحضره الملك لمواجهته، وهددته الإمبراطورة بأن يكون مصيره مثل مصير القديس «يوحنا الذهبى الفم» بطريرك القسطنطينية، ولكنّ البابا «ديسقوروس» لم يقبل تهديدها، وذكَّرها بما حدث لمضطهديه من مرض وآلام. فغضِبت الإمبراطورة ولكمت البابا لكمةً شديدة أدت إلى فقده ضِرسين!!! كذلك تعرض لكثير من الإهانات والضرب ونتف اللحية!!! وأمر الإمبراطور بنفيه عن كرسيه، وأقام بطريركاً آخر عوضاً منه رفض المِصريُّون الخضوع له. وقد تكررت تلك الأحداث على مدى القرون السبعة، إذ استُخدم العنف والاضطهاد والقتل لإخضاع المِصريِّين.
ويذكر العالم «جراتيان لوبير» أحد علماء الحملة الفرنسية فى كتاب «وصف مِصر» عن الأحداث التى مرت بالديار المِصرية فى أثناء حكم الرومان، فيقول: «… المَسيحيُّون الذين كانوا يفِرون هرباً من اضطهاد وملاحقة الأريوسيِّين وأتباع المذاهب الأخرى ليجدوا ملاذًا فى صحارى مِصر الغربية وفى الصَّعيد…». ويذكر د. «وليم سليمان» فى كتابه «المسلمون والأقباط»: «إن كنيسة مِصر لم تنسَ الحُقبة الأولى من تاريخها قط، عندما لقِى الأقباط كل تعنت واضطهاد على أيدى المَسيحيِّين الملكانيِّين الذين ساموهم باسم المسيحية أشد أنواع العذاب… تاريخ أسود من قرن الخَرُّوب لتلك الدولة الرومانية فى وثنيتها وفى نصرانيتها على السواء، فلم تستفِد شيئاً حضارياً أو أخلاقياً من الدين المَسيحى، بل كانت دولة مَسيحية على الطريقة الوثنية».!
ولم تسلَم مِصر من جراء الحروب الرومانية ضد أعدائها، وبخاصة الفرس، فكما ذكرنا فى مقالتنا السابقة عن الخراب الذى أحدثه الفرس فى بلاد الشام ومِصر أيام «فوكاس» إمبراطور الروم، فخُرِّبت كنائس القدس وفلسطين، وقُتل المَسيحيُّون، وزحفوا إلى مِصر حتى وصلوا إلى أُسوان حيث قتلوا وسبَوا عدداً لا يُحصى من أهلها فى مدة عشر سنوات قضَّوها إلى أن انتزع «هرقل» مِصر منهم. ومع عودة الرومان، عادت الاضطهادات تنهال مرة أخرى على الكنيسة القبطية المِصرية (اليعاقبة) من الكنيسة الملكانية، فقد أرسل الإمبراطور «هرقل» وأناب المقوقس «سيروس» فى حكم مِصر، وأقامه بطريركاً للإسكندرية، وقد شهِد عصره الذى استمر عشر سنوات اضطهاداً على الأقباط فكانوا يُخيَّرون بين المذهب الملكانى أو الجلد أو الموت. وقد اتفق المؤرخون أن اضطهاد المقوقس استمر كل مدة وِلايته. ويذكر د. «ألفريد ج. بتلر» فى كتابه: «علينا أن نبين هنا بياناً لا شك فيه، أنه لم يكُن فى ذلك الوقت شىء اسمه (القِبط) فى ميدان النضال، ولم تكُن منهم طائفة لها يد فيه، بل كان القِبط إذ ذاك بمنحاه عنه قد أذلهم فيرس (سيروس) وأرغم أنوفهم…».
ويذكر المؤرخون أن حاكم مِصر آنذاك كان يُدعى «المقوقس» إلا أن «المقوقس» كلمة يونانية تعنى «المفخم» أو «المبجل»، وبهذا تصبح الكلمة لقباً لا اسماً لشخص، وأنه كان مقوقسان فى مِصر أحدهما أذاق المَسيحيِّين صنوفاً وألواناً من العذابات حتى فر من أمامه البابا «بَِنيامين» الثامن والثلاثون فى بابوات الإسكندرية، مع عدد من الأساقفة إلى صَعيد مصر، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ