تحدثنا في المقالة السابقة عن الحكمة في اتخاذ القرارات، وكيف أن القرارات الصحيحة تُنجح العمل كله وتجعل الحكيم في عز وقوة وقادر على فهم وإدراك الأمور. فقرار المدير الحكيم قدَّم نجاحًا إلى شركته، وحكمة الإمبراطور اختارت الأفضل لمملكته. ولنستكمل معًا مشوار الحكمة.
الحكمة في الحُكم، فالحكيم يستطيع الحُكم في كل ما يُعرض عليه من قضايا وأمور، ويكون حُكمه صائبًا يُعلن الحق وأصحابه بوضوح. وفي هٰذا يُدرك الشعب قدرة هٰذا الحكيم. ويذكر لنا الكتاب قصة عن الملك سُلَيمان أحكم ملوك الأرض والذي ظهرت حكمته الموهوبة له من اللَّه في إحدى القضايا التي عُرضت عليه وحَكم فيها. ففي ذات يوم أتت امرأتان إلى الملك، وقصت إحداهما القضية التي تطلبان فيها حُكم الملك. فقالت إنهما ساكنتان في بيت واحد بمفردهما وليس معهما غريب، وقد ولدت هي ابنًا، ثم في اليوم الثالث ولدت المرأة الأخرى أيضًا ابنًا ولكنه مات في الليل لأنها اضطجعت عليه خطأ، فقامت في وسَط الليل وأخذت ابنها الميت من جانبها وأخذت الابن الحي من حِضنها (حضن المرأة أُم الحي) وهي نائمة ووضعت الميت مكانه. ففي الصباح عندما قامت لترْضع ابنها وجدته ميتًا! ولما تأملت فيه وجدت أنه ليس ابنها!! وكانت رواية الثانية مثل الأولى وتقول أن ابنها هو الحي وأن ابن الأولى هو الميت. وهٰكذا استمر الشجار أمام الملك وادعاء كل من المرأتين على الأخرى بأحقيتها في الابن الحي. فقال الملك: ائتوني بسيف. فأتَوا بسيف بين يدَي الملك. فقال الملك: اُشطُروا الولد الحي وأعطوا كلاَ من هاتين المرأتين نصفًا. فسارعت المرأة التي ابنها هو الحي بالحقيقة وخاطبت الملك قائلة: ليكُن حِلمك عليَّ يا سيدي واستمع لضعفي، إن شاء مولاي فليُعطوا هٰذه المرأة الولد الحي ولٰكن لا تُميتوه! وأمّا الأخرى فوافقت على الفور، وقالت: اُشطُروه!! فحينئذ أصدر الملك أمره: ادفعوا الولد إلى حضن هٰذه المرأة التي لم تشَأ هلاكه ولا تُميتوه؛ فإنها هي أمه حقًا. ولما سمِع الناس بحُكم الملك، خافوه وهابوه بالأكثر إذ رأَوا حكمة اللَّه فيه. حقًا هي كلمات الكتاب: “قلب الحكيم يعرف الوقت والحُكم.” ؛ فالشخص الذي وُهب حكمة من اللَّه ويحافظ عليها ويُنميها ستكون حكمته منارة تقود الآخرين كما أن الجميع سيهابونه، ويحبونه.
الحكمــة والقــوة: أيضًا الحكمة هي مصدر قوة الحكيم: “الحكمة تقوي الحكيم أكثر من عشرة مسلَّطين، الذين هم في المدينة”. ويقول أحد الحكماء: “الحكمة خير من القوة.”؛ فمن يملك الحكمة هو أفضل من القَوي أو من لديه السلطان ولا حكمة له. قرأت قصة عن أحد القضاة الحكماء العادلين، والذي اشتُهر بحكمة تجعله يحكم حكمًا صحيحًا ولا يستطيع أحد خداعه. فسمع به أحد الأمراء وأراد أن يتحقق بنفسه من عدله، فتنكر في زي تاجر وتوجه إلى مدينة القاضي على فرسه. وعند مدخل المدينة، سأله رجل كسيح صدقة، فأعطاه. وبينما هو يستعد لمواصلة الرحلة، إذ بالكسيح يطلب إلى التاجر معروفًا أن يأخذه إلى ساحة المدينة، فوافق التاجر. وفي الساحة رفض الكسيح النزول من على ظهر الفرس، مدعيًا أن الفرس ملكه! وعندما احتد النقاش ذهبا كلاهما إلى القاضي. وفي المحكمة كان الحاجب ينادي على المتخاصمين. فاستدعى القاضي نجارًا وبائع سمن كانا يتنازعان على نقود ويدَّعى كل منهما أنها له. قال النجار: اشتريتُ سمنًا من هٰذا الشخص، وعندما أخرجت حافظة نقودي لأدفع الثمن اختطفها هٰذا البائع من يدِي محاولاً أخذ ما فيها. أمّا بائع السمن فقال: هٰذا كذب، فقد جاء هٰذا النجار إليَّ ليشتري سمنًا، وبعد أن أعطيتُه طلب أن أبدل له بقطعة ذهبية نقودًا، وعندما هَمَمتُ بإخراج حافظة نقودي إذ به ينتشلها محاولاً الهروب، فامسكتُه وجئتُ به إلى هنا. صمت القاضي. ثم طلب منهما ترك النقود والحضور في الغد. وعندما جاء دور التاجر والكسيح، قص التاجر ما حدث. ثم أمر القاضي الكسيح أن يتحدث فقال إنه كان ممتطيًا جواده في ساحة المدينة والتاجر جالس على الأرض، فطلب أن يحمله فنقله إلى المكان الذي يرغب، وعند الوصول رفض النزول وادَّعى ملكيته الجواد. فكَّر القاضي ثم قال: اتركا الفرس عندي وعودا غدًا. في اليوم التالي، حضر المتخاصمون إلى القاضي، فتقدم النجار وبائع السمن أولاً لمعرفة الحكم، فقال القاضي للنجار: النقود ملكك. وحكم على بائع السمن بالضرب لكذبه! ثم استدعى الحاجب التاجر والكسيح قدام القاضي، فسألهما: هل تستطيعان أن تعرفا الفرس من بين 20 فرسًا؟ فرد التاجر والكسيح معًا: نعم. فأخذهما القاضي إلى الإسطبل، فأشار التاجر في الحال إلى فرسه وقد ميزه بين 20 آخرين، وكذٰلك فعل الكسيح. وهنا قال القاضي للتاجر: الفرس لك فخُذه، أمّا الكسيح فاضرِبوه لكذبه! بعد انتهاء المحاكمة، ذهب القاضي إلى بيته فسار التاجر خلفه، فالتفت القاضي إليه وسأله عما يريد. قال التاجر: أردتُ أن أعلم كيف عرفتَ أن النقود ملك النجار، وأن الفرس لي. قال القاضي: المال للنجار لأنني وضعتُ النقود في كوب ماء ساخن لأرى هل سيطفو السمن على سطح الماء، إذ حتمًا أن النقود لو كانت لبائع السمن لكان عليها آثار السمن من يديه. أما معرفة صاحب الفرس فكانت أصعب، فالكسيح أشار مثلك في الحال إلى الجواد، ولٰكني لم اصطحبكما لتتعرفا الجواد، بل لأرى مَن منكما سيتعرف الجواد إليه! فعندما اقتربتَ أنت، التفت الجواد برأسه إليك وهٰكذا عرفتُ أنه لك. … يقول الكتاب: “أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير ..” … وللحديث بقية …