تحدثنا في المقالة السابقة عن عدل الله في قصة مُردَخاي وهامان، وتحدثنا عن عنصري العدل: الإنسان وعَلاقاته بمن حوله، وكيف أن العدل هو أساس المجتمع الناجح الذي يرقى بشعبه. وعرضنا أن الإنسان العادل هو إنسان يعترف ويحترم حقوق الآخرين.
ثم بدأنا قصة عن الصديقين الحميمين اللذين تفرقا في دروب الحياة إلى أن التقيا مرة أخرى؛ أحدهما متهمًا والآخر قاضيًا! ونحن نُكْمل القصة أود أن أؤكد بعض النقاط الهامة في موضوع العدل.
تستأنف القصة بأن المحامين ـ المكلّفين بالدفاع عن المتهم وأيضًا أولٰئك بالادّعاء ـ كانوا يعرفون جيدًا الصداقة الحميمة التي تربِط القاضي بالمتهم. وكانت الأسئلة تنتابهم: ماذا سيفعل القاضي بصديق طفولته؟ هل سيستطيع التوفيق بين تطبيق القانون واحترام الصداقة؟! هل سيحكم على صديقه، أم سيحاول إيجاد طريقة للعفو عن ذنبه؟
ووقف الجميع قدام القاضي، وعُرضت وقائع الدعوى، وبدأ الادعاء بعرض الاتهامات وتورُّط المتهم، وأخذ محامو المدَّعَى عليه بالدفاع عنه. وأخيرًا جاء دور القاضي الذي حكم على المتهم ـ صديقه وزميله ـ بأقصى عقوبة ماليّة، وهو يعلم أن القانون يُعطيه الحق بتخفيف العقوبة إلى النصف! وعقدت الدهشة ألسنة الجميع وهم يشاهدون القاضي يقوم بإخراج المال الكافي لتسديد العقوبة نيابة عن صديقه من جيبه الخاص، ويحرره فورًا. كان لدى القاضي ضمير القضاء الحي الذي يُلزمه أن يحكم بالعدل، وفي الوقت نفسه مرت أمام عينيه أيام الصداقة الحميمة التي جمعته بالمتهم؛ وهو ما حثه على الرحمة به. وبهٰذا الامتزاج العجيب بين الدافعَين: أنفذ القانون بالعدل، وأنقذ صديقه بالرحمة؛ دون كسْر القانون. ما أجمل أن يتلاقى العدل والرحمة ليصنعا عدلًا رحيمًا أو رحمة عادلة! وهٰذه صفة تتجلى في الله ـ تبارك اسمه ـ عادل في رحمته رحيم في عدله، كُلِّيّ الرحمة وكُلِّيّ العدل في آن.
إن الإنسان يَحمل في أعماقه ميلًا شديدًا إلى العدل، وقد عبَّرت الأديان عن هٰذه النزعة: ففي المسيحية خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله، ومن سمات هٰذه الصورة أن يحمل الإنسان صفات العدل والرحمة والمحبة … إلخ؛ وإن كانت بالطبع بدرجة محدودة وليست مطلقة كوجودها في طبيعة الله، فجاء في الكتاب: “وقال الله: «نعمل الإنسان على صورتنا كشَبَهنا ..” (سفر التكوين 1: 26). وفي الإسلام الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وكقول الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق: “ينبغي أن يُحرِّم الإنسان الظلم على نفسه كما حرَّمه الله على نفسه، وإذا لم يفعل فإنه يكون قد خان مسؤولية خلافته في الأرض؛ تلك الخلافة التي أكدها القرآن في مناسبة خلْق الإنسان: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) سورة البقرة 2: 30 .
ومن هنا أصبح للإنسان دور و واجب لا يمكنه الفرار منه إذ هو واجب إنساني وروحي؛ بدافعه يسعى لتحقيق العدل على الأرض وأينما وُجد بَشَر؛ فيقول الكتاب عن وصية الله لإبراهيم: “لأني عرفتُه لكي يوصي بنيه وبيته مِن بعده أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا بِرًّا وعدلًا ..” (سفر التكوين 18: 19)، وفي القرآن: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). سورة النحل 17: 90.
ويتجلى عدل الله في محبته لكل البشر، ورحمته وعطائه لكل خليقته؛ فهو يُشرق شمسه على العالم بأجمعه ويهب خيراته للجميع ـ أخيارهم وأشرارهم ـ بل رحمته وسِعَت كل شيء. ومن عدله أيضًا أن كل إنسان سيأخذ نتيجة أعماله إن كانت خيرًا أو شرًا؛ فمن يزرع الخير حتمًا سيَجنيه خيرًا، ومن يغرس الشر سيحصده شرًا.
ولا أنسى قصة أعجبتني عن احتفال مهيب أقيم لزواج ابن أحد الأمراء الفرنسيين بابنة “كُونت فيليب”. كان الزفاف في الربيع، وكان يحظى بجو بهيج وجميل، فقرر العروسان أن يسيرا على الأقدام.
وفي غمرة سعادة العروسين، استرعى نظر العروس موكب آخر يسير في الاتجاه المضاد، يتقدمه شاب يبدو عليه الفقر والبؤس والحزن، يبكي بشدة وراء نعش لا يوجد عليه زهرة واحدة حسب عادات أهل البلدة. وعندما أراد منظمو موكب العروسين أن يُفسِح موكب الجنازة الطريق للعروسين، قامت العروس بخلع زهرة جميلة من إكليلها الغالي ثمنه ووضعته بلطف على النعش، وأمرت أن يُفسَح الطريق للموكب الحزين حتى يصل إلى الكنيسة. فتأثر الشاب وأجهش بالبكاء و … ونستكمل حوارنا الأسبوع القادم!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي