وقف بعينين شاردتين نحو الأفق البعيد، إلا أن أفكاره الشاردة لم تتخطَّ ذاته. وتوالت الصور أمام عينيه فيرى نفسه وهو طفل يركُض إلى والده، ثم تقفز صورة تجمعه مع أصدقائه فى المدرسة الثانوية، يتوسطهم مدرس اللغة العربية بابتسامته المعهودة. وتتوالى اللقطات أمام عينيه بين ما تحمله من حزن وفرح. إلا أن الزمن توقف أمامه لحظة وهو يردد ذٰلك السؤال: أأنت حر حقـًّا؟. “الحرية”، ذٰلك النداء الذى تُدَوِّى أصداؤه جنبات المسكونة بأسرها. والأمل الذى يلوح فى الأفق ويبتغيه الجميع هو “أن يمتلكوا الحرية”. لذا، دعونا نتوقف قليلـًا بهدوء لنُدرك أسرار “تلك الحرية” فنتمكن من الوصول إلى تحقيقها فى رحلة الحياة. يَلزمنا فى بداية رحلتنا فى البحث عن الحرية، أن نتساءل: أحقـًّا يبحث الإنسان عن الحرية؟ وقبل أن تُسْرع بإجابتك، قارئى العزيز، دعنا نتذكر كلمات عالم النفس “سيجموند فرويد” حين قال: “معظم الناس حقـًّا لا يريدون الحرية، لأن الحرية تنطوى على مسؤولية، ومعظم الناس خائفون من المسؤولية” ؛ وهنا يتردد فى أعماق الإنسان صوت: كُن صادقـًا، وفكِّر بصدق مع ذاتك فى الاستعداد لتحمل مسؤولية أعمالك وقراراتك، غير باحث فى رحلة الحياة عن تلك الأشياء، أو الظروف، أو الآخرين لإلقاء تبعات ما تتعرض له عليها. فكما يقولون: “أولى خَطوات طريق الحرية هى أن تتوقف عن إلقاء المسؤولية على الآخر.”. ليس الآخر فقط، بل كل أمر يمكنك أن تضعه أمام عينيك ليُبعِد المسؤولية عنك. ويربِط “آبراهام لينكولن” بين الحرية والمسؤولية فيقول: “الحرية هى الرغبة فى أن نكون مسؤولين عن أنفسنا”. فإذا أردتَ أن تحيا الحرية، فابدأ بتعلم فن مسؤوليتك عن نفسك. ولكى يستطيع الإنسان أن يُدرك إمكاناته التى تؤهله لتحمل مسؤوليات محددة، ينبغى له أن يكون على دراية قوية بذاته، ومواهبه، والظروف التى يعمل فيها؛ ليستطيع أن يتخذ قراراته بحرية وفى الوقت نفسه تكون صائبة. “فالحرية تبدأ عندما ينتهى الجهل”. وعمومـًا، كلما ازدادت معرفة الإنسان: بنفسه، وبالآخرين، وبحقيقة المواقف، وبطبيعة الأشياء؛ امتلك رؤية أقوى ومقدرة أعلى على التصرف. وفى كلمات لرجل كانت الحرية رسالته فى الحياة هو “نيلسون مانديلا”، نجده يعبّر عن عمق آخر للحرية، فيقول: “أن يكون الإنسان حرًّا لا يعنى مجرد تحرره من الأغلال التى تقيده، بل أن يعيش بطريقة تحترم وتعزز حرية الآخرين”. أن الحرية الحقيقية ـ وإن كان يجب أن تكون جسدية ـ إلا أن عمقها الحقيقى يبرِز فى قدرة الإنسان على أن يعيش بحرية لا تُلغى أو تجرح حريات الآخرين. وتمتلئ الحياة بنماذج من بشر يظنون أنهم يعرِفون ويُدرِكون ويعيشون أحرارًا، لٰكنهم فى واقع الأمر سجناء أفكار قاصرة، ومسؤولية لا يرغبون فى حملها.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى