في رحلة الحياة ، نلتقي أشخاصًا ومواقف وظروفًا، إلا أن استجابة كل إنسان لما يلتقيه في الحياة وتقديره للأمور يختلف من شخص إلى آخر؛ وقد تتسع دائرة الاختلاف بين البشر أو تضيق، ولٰكن هٰذا الأمر يتوقف على نظرة كل إنسان وتقديره لما يمر به. هناك من يرى دائمًا أن ما أصيب به يُعد كارثة لم تمر بأحد، وأنها لا تُحتمل، وأن كل ما في الحياة يقف ضده! وهناك من يُدرك أن الحياة تمتلئ بالآلام ولٰكنها سوف تُعبر وتنتهي يومًا ما، وأن علينا أن نتعلم كيف نجتازها بأقل قدر من الألم وأكبر قدر من السلام والسعادة. وهٰكذا نظرتنا في الأمور تُعد محكًّا أساسيًّا لإدراك معنى الحياة ودورنا فيها. وقد توقفت أمام قصة أرسلها إليَّ أحد الأصدقاء بدأها: “طفل عاش زمانًا بأسره”، تتحدث عن طفل لم يتم العَقد الأول من عمره، ولٰكنه أدرك معنى الحياة وقيمتها الحقيقية بأن يصير يَنبوعًا تتدفق منه الحياة إلى الآخرين!! “تِشِنّ” الطفل الصينيّ، الذي لم يتجاوز السابعة، يستيقظ يومًا ما ليجد أنه أصيب بسرطان في المخ أدى إلى فقده البصر، وفي الوقت نفسه تصاب والدته ذات السبعة والأربعين عامًا بفشل كُلويّ مزمن؛ ليُصبحا نزيلين في مستشفى واحد يخضعان للعلاج فيه. وفي أثناء ذٰلك، لم تتوقف الحياة ولم يَخْبُ الأمل في أعماقهما، بل حمل كل منهما الحب نحو الآخر، محاولاً التخفيف عنه من عب المرض ووطأته. إلا أن حالة الطفل لم تجد تحسنًا ملموسًا ، بل أخذت في التراجع في إعلان عن قرب مغادرته للحياة. وفي ظل تلك الأحداث، يطلب الطفل من الأطباء أن يقوموا بنقل كُليته إلى أمه المريضة التي تعاني آلامًا تفوق التحمل، في محاولة منه أن يمنحها بعض الراحة؛ رفضت الأم ذٰلك رفضًا شديدًا. ولٰكن مع إصرار الأطباء وطلب ابنها المُلح عليها في قَبول كُليته، وبخاصة عند قوله: “أريدكِ أن تستمري في الحياة بجزء مني”! قبِلت الأم تحقيق رغبة ابنها الطفل الذي يَهوِي سريعًا أمام المرض. وبعد أن أعطاها كُليته بمدة قصيرة مات “تِشِنّ”، لتكتشف الأم أن طفلها لم يمنحها الحياة هي وحدها، بل قد طلب من أطبائه أن يقدم كَبِده لأحد المرضى الذين كانوا يعالجون معه في غرفته !! كما قدم كُليته الأخرى لفتاة مريضة بغرفة مجاورة له !!! نعم لقد مات “تِشِنّ”، ولٰكنه ما يزال يحيا في فكر كل من قابلهم، أو عرَفوا بقصته، فهو ما يزال ينبُض في حياة ثلاثة أشخاص منحهم فرصة جديدة للحياة. ومن الممكن أن يتساءل بعضٌ: وما هي تلك الفائدة التي ستعود عليه؟! لقد مات ! مات جسده الهزيل ، ولٰكنه يقف أمام الله الديان العادل، وهو يحمل عطاءه وحبه وكل ما قدم من خير عظيم حياةً ممتدةً له . وهٰكذا: فإما أن تصير الحياة عبئًا يثقل كاهل الإنسان، وإما أن تكون رحلة حب وعطاء يترك فيها ومضات ضوء لا تنتهي مهما ثقلت ظلمة الطريق. إن الحياة مسيرة تقود إما إلى موت وإما إلى خُلود.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ.