بدأنا الحديث فى المقالة السابقة عن ذٰلك الحكيم الذى تحدث عن أهمية إدراك الإنسان لاتجاه مسيرته فى الحياة؛ فكما ذكر أنه فى جميع ما يمر بالإنسان من صعاب فى الحياة وجهين: أحدهما يشجع، والآخر لا يرى سوى الفشل والإحباط ؛ أما الاختيار فهو لكل إنسان. ثم استعرضنا كلمات الطفلة “تانا” التى تسدى نصائح غالية إلى أمها، فى بساطة الأطفال، ولكن فى الوقت نفسه فى عمق شديد، فهى ترغب أن يكون والداها بل كل الناس أصدقاء، وألا يرتفع سقف المطالب فى العَلاقات الإنسانية إلى درجة كبيرة، بل يكون عاديًّا، وبحسب تعبيرها إلى أمها: “حاولى ألا تجعلى الأمور عالية (صعبة) لتكونا أصدقاء. أريد أن يكون كل شىء منخفضًا (سهلا) أى مناسبًا لطبيعة الإنسان”. نعم، فغالبًا ما يكون أحد أسباب فشل العَلاقات الإنسانية هو ارتفاع سقف التوقعات والمطالب التى يضعها كل إنسان فى مخيلته عن الآخر، التى كثيرًا ما تفوق القدرات الإنسانية؛ لذٰلك قبل أن نحكم على الآخرين وعطائهم، فلنسأل أنفسنا: هل يمكننا أن نحقق ما نطالب به الآخرين فى عَلاقاتهم بنا؟! إن كانت الإجابة: “لا” أو “من الصعب”، فليس من العدل أن نطلب من أحد ما لا نستطيع أن نقوم نحن بفعله.
أوافق أن القدرات الإنسانية تختلف من شخص إلى آخر، وأن هناك من يقدمون كثيرًا إذ لهم طبيعة معطاء لا تعرف سوى أن تقدم، يذكروننى هٰؤلاء دائمًا بفصيلة الدم “O” التى تعطى الجميع ولا تحصل إلا على نفس فصيلتها. ولٰكن ألا توافقنى، يا عزيزى، أن مثل هذه النوع نادر الوجود؟!! لذلك علينا ألا نطالب الآخرين بما هو فوق إمكاناتهم، وأن نقدر عطاء كل إنسان إذ هو دليل محبته الصادقة، ولنثقْ أنه بتقديرنا هذا سيحاول أن يقدم مزيدًا ومزيدًا لأنه وجد من يشعر بمحبته ويقدر عطاءه.
تستمر الطفلة ذات الأعوام الخمسة فى حديثها؛ وأتوقف عند تساؤل طرحته: “ولو عشنا فى عالم جميع من فيه قساة، لأضحى البشر حينئذ وحوشًا! وماذا، لو أصبح البشر قلة وسط أولٰئك الوحوش؟!”. نعم، ماذا لو فُقدت معالم الإنسانية وسط عالم الوحوش؟! تجيب “تانا”: “حتمًا لقاموا بالتهامهم، ولن يبقى أحد طيبًا، وتبقى الوحوش فقط. أريد من الجميع أن يتصرفوا بصفتهم أشخاصًا ( تقصد أناسًا يحملون إنسانيتهم فى أعماقهم )، الجميع: أعنى نفسي، وأمى، وسائر الناس.”.
ثم تستكمل حديثها: “أريد أن تُحَل المشكلات ولا شىء غير ذٰلك. أريد أن يكون كل شىء جيدًا قدر الإمكان، ولا شيء غير ذٰلك”؛ إن صغيرتنا ترى وتعبّر ببساطة شديدة وحكمة عميقة عن عَلاقة وقوع المشكلات بفقدان الإنسان لطيبته وإنسانيته. والحق، يا بنيتى الصغيرة، حين ندرك عمق إنسانيتنا وحق كل إنسان فى أن يعيش إنسانيته، حينئذ وحينئذ فقط تتوارى الصراعات وتختفى المشكلات، لا لأنها لم تعُد، ولٰكن لأننا وقتئذ نصير متعلمين ومتمرسين كيفية معالجة الأمور بفكر وبمحبة، لا بقوة عضلات أو بتحطيم للآخر؛ وفى رأيى الشخصى، حينئذ نرى الله: نراه فى الخير والسلام والمحبة فى كل مكان وبين البشر.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى