استكملنا فى المقالة السابقة الحديث عن الخليفة «أبى جعفر المنصور»، ثانى خلفاء الدولة العباسية، وتأسيسه مدينة «بغداد» لتصبح عاصمة الدولة العباسية. أما عن «مِصر» فقد ولَّى «أبوجعفر المنصور» عليها «موسى بن كعب»، ثم «مُحمد بن الأشعث»، ومن بعده «حُميد بن قَحطَبة»، ثم «يَزيد بن حاتم» الذى تولى أمر «مِصر» من بعده «عبدالله بن عبدالرحمٰن».
«عبدالله بن عبدالرحمٰن» (١٥٢- ١٥٥هـ) (٧٦٩- ٧٧٢م)
هو «عبدالله بن عبدالرحمٰن بن معاوية بن حُدَيج التُّجَيبِى»، وقد تولى إدارة شُؤون «مِصر» من قِبل الخليفة بعد عزل «يَزيد بن حاتم». لم يولِّ أمر الشرْطة لأحد بل باشر هو أمرها بنفسه. وبعد قضائه عامين فى «مِصر»، ذهب إلى الخليفة «أبى جعفر المنصور» عام ١٥٤هـ (٧٧١م) واستخلف أخاه «مُحمد بن عبدالرحمٰن» على أمور حكمها حتى عاد فى العام نفسه، وظل فى حكم «مِصر» حتى تُوفِّى فيها عام ١٥٥هـ (٧٧٢م) بعد أن قضى فى حكمها قُرابة ثلاث سنوات، وقد استخلف أخاه «مُحمد» فأقره الخليفة.
«مُحمد بن عبدالرحمٰن» ١٥٥هـ (٧٧٢م)
ويسمَّى «مُحمد بن عبدالرحمٰن بن معاوية بن حُدَيج التُّجَيبِى»، ترك له أخوه «عبدالله» شُؤون «مِصر» من بعده، وقد وافق الخليفة «أبوجعفر» على حكمه «مِصر»، ويُذكر عنه أنه كان صالحًا فى حكمه. لٰكنه تعرض لمرضٍ شديد ألزمه الفراش حتى تُوفِّى فى العام نفسه، فكان حكمه لـ«مـِصر» قرابة ثمانية أشهر ونصف الشهر. وفى أيام حكمه «مِصر» أرسل جيوشها إلى «أفريقيا» (المغرب) وانتصر على من بها. وقد ترك شُؤون البلاد من بعده إلى «موسى بن على» الذى أقره الخليفة «أبوجعفر» على حكمها.
«موسى بن على» (١٥٥- ١٦١هـ) (٧٧٢- ٨٧٨م)
واسمه «موسى بن على بن رباح اللَّخْمِى». تولى حكم «مِصر» بعد موت «مُحمد بن عبدالرحمٰن». ويذكر المؤرخ «التَّغرى» أن فى حكمه قد خرج عليه بعض القبط، فأرسل إليهم عساكره ليقاتلوهم حتى هزمهم وقتل بعضًا منهم وعفا عن بعض آخر. وقد تولى أمر «مِصر» حتى موت الخليفة «أبى جعفر المنصور» عام ١٥٨هـ (٧٧٥م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه «مُحمد المهدى» الذى أقر «موسى بن على» على حكم «مِصر» حتى عزَله عام ١٦١هـ (٧٧٨م)، فكانت مدة حكمه ست سنوات وشهرين تقريبًا، ثم تولى «مِصر» من بعده «عيسى بن لُقمان».
وفى ذٰلك الوقت، كان «البابا خائيل الأول» قد تُوفِّى، واختير «البابا مينا الأول» السابع والأربعين فى بطاركة «الإسكندرية».
«البابا مينا الأول» (٧٦٧- ٧٧٦م)
كان «البابا مينا» قبل سيامته للبطريركية راهبًا بدير القديس «مكاريوس الكبير». فحدث بعد وفاة «البابا خائيل الأول»، أن اجتمع الآباء الأساقفة مع الشعب طالبين إلى الله الذى يعرِف خفايا القلوب أن يختار لهم راعيًا أمينًا مثل «البابا خائيل الأول» ليرعى شعبه. فلما أتى ذِكر الراهب «مينا» الذى من «دير القديس مكاريوس» بوادى النطرون لقى استحسانًا بالإجماع، إذ كان مشهودًا له من الجميع بمحبته، إلى جانب أنه كان من تلاميذ «البابا خائيل الأول». فانتُخب الراهب «مينا» بالإجماع ليكون بطريركًا للكرسى المرقسى، الذى عند سيامته رغِب فى الاحتفاظ بِاسم «مينا» ليصبح «البابا مينا الأول» البطريرك السابع والأربعين للكرازة المرقسية.
كان الهُدوء يسود البلاد فى تلك الآونة. فأخذ «البابا مينا» فى الاهتمام بتعليم شعبه وتوضيح مفاهيم الإيمان له وتعميقه فى حياته. واهتم ببناء الكنائس المنهدمة وتعميرها. إلى أن بدأت المتاعب والضيقات تعترى ذٰلك الأب البطريرك من داخل القبط. فقد تملَّك الزهو والغرور أحد الرهبان، ويُدعى «بطرس»، حتى إنه طلب لقاء «البابا مينا» لكى يرسّمه مطرانًا!! وأدرك «البابا مينا» أن ذٰلك الراهب قد وقع فريسة الكبرياء فلم يقبل. فما كان من الراهب «بطرس» إلا أن كتب خطابًا إلى بطريرك «أنطاكية» ووقّعه باسم «البابا مينا الأول»، يطلب فيه مالاً، ثم توجه إلى أنطاكية وقدَّم الخطاب. جازت تلك الخديعة على بطريرك «أنطاكية» الذى أسرع بتقديم المال، وكتب رسالة إلى «البابا مينا» يعبّر فيها عن تقديره وإجلاله للكرسى الإسكندرى.
أسرع الراهب «بطرس» إلى الخليفة «أبى جعفر المنصور» الذى كان يحمل مودة للمَسيحيِّين، فأحسن الخليفة استقباله وبخاصة أنه يشبه ابنًا له كان قد تُوفِّى قبل ذٰلك الوقت بأشهر. وأقام الراهب «بطرس» بقصر الخليفة قرابة ثلاثة أشهر، ثم أرسله الخليفة إلى «مِصر» مع رسالة إلى واليها يطلب منه فيها أن يكون «بطرس» بابا الإسكندرية!!! إذ كان قد أعلن للخليفة عن رغبته فى ذٰلك. وكان الخليفة قد أعد له حُلّة من الحرير غالى الثمن وقُلُنْسُوة (غطاء رأس للرهبان)، وطُرِّزت عليها عبارة: ««بطرس» بابا «مِصر» وخادم الملك»!!!
حمل الراهب «بطرس» خطاب الخليفة إلى والى «مِصر» الذى كانت تربطه عَلاقات طيبة واحترام كبير بـ«البابا مينا الأول»، فأرسل إليه طالبًا منه الحضور. وعند حضور الأب البطريرك، وجد الراهب «بطرس»، وعلِم بالأمر، فحاول أن يعيد الراهب إلى رشده، مذكّرًا إياه بكلمات الكتاب التى تقول: «ولا يأخذ أحد هٰذه الوظيفة بنفسه، بل المدعوّ من الله…»، وقال له: «فإن اغتصبتَ كرامة الكهنوت فاعلم أنها تُنزع عنك، وتَلقَى حتفك فقيرًا مُعدَمًا». فلم يسمع الراهب «بطرس» للأب البطريرك، بل هدد الوالى بأنه سيشكوه إلى الخليفة!!! وأسرع «البابا مينا»- الذى شعر بحرج موقف الوالى بين طاعته لأوامر الخليفة وبين احترامه وتقديره له- بإعلان تنفيذ ما يراه الوالى. وطلب «بطرس» أن يُتَحفَّظ على البابا ويُستدعى الأساقفة لإبلاغهم بأوامر الخليفة!!! اجتمع الآباء الأساقفة فى الكنيسة، مصلين إلى الله بعد أن علِموا بدعوة الوالى لـ«البابا مينا» ولهم. ولٰكنّ «بطرس» لم يُطِق صبرًا أن ينتظر حضور الأساقفة إلى دار الولاية فأسرع إلى الكنيسة التى اجتمعوا فيها مع بعض من الجند، وما إن دخل الكنيسة حتى أراد البَدء فى الصلاة وكأنه البابا الفعلى!!! فاعترضه كل من «أنبا مويسيس» أسقف أوسيم- الذى لم يكُن قد تنيَّح بعد- و«أنبا مينا» أسقف طنبوه، وهو ما أثاره فأمر الجند بإلقاء القبض على الآباء الأساقفة وطرحهم فى السجن ومكثوا به عدة أيام.
لم تتوقف محاولات «بطرس» للإيقاع بالأب البطريرك والآباء الأساقفة، مدعيًا أنهم يستطيعون تحويل المعادن إلى الذهب، وغيرها من أمور لم تَكُن إلا لجلب الشرّ عليهم من قِبل الوالى. وأخيرًا، أمر «بطرس» الوالى بأن يحكم عليهم بطلاء المراكب، مهددًا إياه بإبلاغ الخليفة!!! فلم يجد الوالى طريقًا آخر سوى تنفيذ طلبه. فعمِل «البابا مينا» وأساقفته فى طلاء السفن ما يقرب من العام، إلى أن ألقى الوالى القبض على «بطرس» ملقيًا إياه فى السجن من أجل تصلفه، وأعاد «البابا مينا» والأساقفة إلى كراسيهم. قضَى «بطرس» ثلاث سنوات فى السجن، ثم خرج قاصدًا الخليفة، فبلغه أمر موته، فأدرك أنه «ملعون كل من اتكل على ذراع بشر»، فعاد إلى قريته، ولٰكنه وجد رفضًا من أهلها، فمات وحيدًا شريدًا مُعدَمًا.
قضى «البابا مينا» سنواته الأخيرة فى هُدوء وسلام حتى تنيَّح بعد أن اعتلى الكرسى المرقسى ثمانى سنين وعشرة أشهر.
و… وعن «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي