تحدثنا في المقالة السابقة عن الحِقبة الثانية من حكم “المأمون” التي كانت في “بغداد”، والتي عدها المؤرخون بداية فعلية لحكمه المتسم باللين والقوة والعدل والتسامح. وعرضنا لحكم القائد “طاهر بن الحُسين” وخروجه على الخليفة وموته المفاجئ، ولثوْرات داخلية مرت بـ”الدولة العباسية”.
أحوال “مِصر”
أما عن أحوال “مِصر” في تلك الحِقبة العصيبة، فقد شهدت هي أيضًا تيارًا من الاضطرابات الشديدة استمر قرابة عشْر سنوات (٢٠٠-٢١٠هـ) (٨١٥-٨٢٥م): فقد انتهز “عُبيد الله بن السَّرِيّ” انشغال الخليفة بإخماد ثوْرات تعرضت لها الدولة العباسية ـ وبالأخص ثورة “نصر بن شَبَث” ـ حتى ثار هو في “مِصر” مُوقدًا بها الفتن. وقد اختل الأمن بالأراضي المِصرية لقدوم عدد كبير من عرب “الأندلس” (“إسبانيا”) ـ بعد أن قام “الحَكَم بن هشام” بطردهم ـ فنزلوا بـ”الإسكندرية” حيث قاموا بسلب الأموال وهتك الأعراض وتهديد المِصريِّين الآمنين. وبلغ الأمر الخليفة “المأمون”؛ فأمر “عبد الله بن طاهر” ـ الذي كان قد انتهى من أمر “نصر” ـ بالتوجه سريعًا إلى “مِصر” وإخماد تلك الفتن. قدِم “عبد الله” إلى “مِصر”، وقاوم الثائرين، وطاردهم، فرحل الأندلسيُّون إلى جزيرة “كريت” وعاشوا بها؛ وانتصر أيضًا على “عُبيد الله بن السَّرِيّ” وأخمد ثورته ولٰكنها اندلعت مرة ثانية.
وقد ذكر المؤرخون في أمر تلك الاضطرابات أن “المأمون” جاء إلى “مِصر” لإخماد ثورة قامت من أهلها لفساد حاكمها: “وقد خرج «المأمون» في السادس عشَر من ذي الحجة سنة ٢١٦هـ، إثر شُخوصه إلى «دمشق» مرةً ثانية، وكان خُروجه إلى «مِصر» ـ فيما يقول الرواة ـ لإخماد ما قامت فيها من فتن واضطرابات، وذٰلك: أن أهالي الوجه البحْريّ خرجوا وفيهم أقباط البلاد على «عيسى بن منصور» عامِل «مِصر» لسوء سيرته فيهم ولقُبح صنيعه معهم سنة ٢٢٠هـ؛ فجاء «المأمون» إلى «مِصر» ونظر في أسباب الثورة، وسمع ما نُسب إلى سوء تصرف عامِله، فعمِل على إنصاف الناس، واستعمل الحزم والقوة حتى أُخمدت الثورة وأعاد الأمن والنظام إلى البلاد.”؛ ويذكر المؤرخون أنه قضّى في “مِصر” أربعين يومًا جائلًا وقائمًا ببعض الإصلاحات.
حكام “مِصر”
كنا قد تحدثنا عن حكام “مِصر” في مقالة “أول الشر …!”، وتوقفنا عند نهاية حكم “عبّاد بن مُحمد” (١٩٦-١٩٨هـ) (٨١٢-٨١٣م) وتولّي “المطَّلب بن عبد الله” أمر “مِصر” بدلًا منه.
“المطَّلب بن عبد الله” (١٩٨هـ) (٨١٣-٨١٤م)
هو “المطَّلب بن عبد الله بن مالك بن الهيثم الخُزاعيّ”، ولّاه “المأمون” بعد أن ألقى القبض على “عبّاد”، وسكن بمَِنطَِقة العسكر. امتلأ زمنه بكثرة الاضطرابات والفتن والحُروب في “مِصر” لوجود فرقتين فيها: الواحدة تتبع “الأمين” والأخرى تتشيع “للمأمون”؛ فشهد ذٰلك الزمان ـ على قِصَره ـ أربعة مسؤولين عن الشرَّْطة! هم: “هُبَيرة بن هاشم” ثم عُزل، وأقيم “مُحمد بن عُسامة”، ومن بعده “عبد العزيز بن الوزير”، ثم “إبراهيم بن عبد السلام” وأخيرًا عُزل، وأعيد “هُبَيرة بن هاشم”. عزل “المأمون” “المطَّلب” بعد سبعة أشهر ونصف الشهر تقريبًا، ثم قبض عليه وسجنه، وولَّى على “مِصر” بدلًا منه “العباس بن موسى” ـ وفي تلك الحِقبة كان قد تولى الخليفة “المأمون” الحكم بعد انتصاره على أخيه “الأمين” وموته.
“العباس بن موسى” (١٩٨هـ) (٨١٤م)
يسمى “العباس بن موسى بن عيسى”، وتولى أمر “مِصر” بعد عزل “المطّلب”؛ وحين علِم بولايته على “مِصر”، أرسل إليها ابنه “عبد الله” خليفةً له عليها فقدِم إليها يصحبه “الحسن بن عُبيد” وأمر بسجن “المطَّلب”. حكم “عبد الله” على “مِصر” بشدة وقسوة على أهلها؛ فنال منهم كرهًا شديدًا وثاروا عليه واتحد جُنود “مِصر” مع الشعب فحاربهم “عبد الله”. وقد هدد “الحسن” الجيش المِصريّ لموافقة جنوده على محاربة “عبد الله” الذي لم يلبث قليلًا حتى تجبر على الشعب المِصريّ وهدد الجميع؛ فاجتمعوا معًا في ثورة عاتية عليه فقاتلهم، لٰكنّ المِصريِّين انتصروا وأخرجوه من أرضهم، وذُكر أنهم قتلوه. قام المِصريُّون بعد ذٰلك بإخراج “المطّلب” من حبسه وولَّوه حكم “مِصر”، إلى أن أتى “العباس” إلى “مِصر” ونزل في “بلبيس” ثم “الحوف” حتى عاد مريضًا إلى “بلبيس” ومات بها عام ١٩٩هـ (٨١٥م)، وقد ذكر بعض المؤرخين أن “المطّلب” قد دس له سُمًا في الطعام أودى بحياته. وبذٰلك شهِد حكم “العباس” ـ بعد أن أناب ابنه عنه ـ حِقبةً من أشد الحُقوب قسوةً في “مِصر”: لم تخلُ من الحُروب والقتال والفتن.
ولاية “المطَّلب بن عبد الله” الثانية (١٩٩هـ) (٨١٥م)
بدأت ولاية “المطَّلب” الثانية بعد خروجه من السجن نتيجة ثورة شعب “مِصر” وجندها على “عبد الله بن العباس” و”الحسن بن عُبيد” وطرْدهما من البلاد. حكم “المطَّلب” “مِصر” بالرفق وأحسن إلى شعبها؛ فانضم إليه كثيرون منها فتقوى بهم، وأخرج جميع من اتَّبعوا “العباس” وابنه، إلى أن أتى “العباس” إلى “مِصر” فحدثت حُروب بينهما؛ ثم مات “العباس”. وعندما وصلت تلك الأمور إلى الخليفة “المأمون”، أقر “المطَّلب” على حكم “مِصر” إذ كان منشغلًا بقتال أخيه. وهٰكذا استمر “المطَّلب” في حكم “مِصر” إلى أن استقر الأمر “للمأمون” فعزله ووضع بدلًا عنه “السَّرِيّ بن الحكم” عام ٢٠٠هـ (٨١٦م). إلا أن الحرب اشتدت بين “المطَّلب” و”السَّرِيّ” وقُتل عدد كثير من الجيشين، وانتهت إلى هزيمة “المطَّلب” وهربه من “مِصر” بعد أن حكمها عامًا وسبعة أشهر. أمّا عن الشعب والجُنود المِصريِّين، فقد دافعوا عن أنفسهم أمام قوات “السَّرِيّ” حتى أعطاهم الأمان فتمكن من دُخول “مِصر” وحُكمها.
“السَّرِيّ بن الحَكَم” (٢٠٠-٢٠١هـ) (٨١٦م)
“السَّرِيّ بن الحَكَم بن يوسُِف بن المقوَّم”؛ تولى حكم “مِصر” بعد عزْل “المطَّلب”. اهتم بعمل إصلاحات في “مِصر” وقُراها. إلا أن أمورًا كثيرة وقعت بين حاكم “مِصر” ووُجوه أهل “خُراسان” بـ”مِصر” قد أدت إلى فساد العَلاقة بينهما، حتى عُزل من حكم “مِصر” بعد أن استمر قرابة ستة أشهر. وقد تعددت الروايات واختلفت في أمر إبعاد “السَّرِيّ” عن الحكم: فقد قيل وُرود خبر عزله من الخليفة “المأمون”، وقيل إنه هو من قرر الخروج من “مِصر” طالبًا إعفائه من حكمها، وقيل إن الجنود قبضوا عليه بأمر الخليفة وحبسوه. استقر حكم “مِصر” من بعد “السَّرِيّ” إلى “سُلَيمان بن غالب”.
“سُلَيمان بن غالب” (٢٠١هـ) (٨١٦م)
هو “سُلَيمان بن غالب بن جميل بن يَحيى”؛ تولى أمر “مِصر” بعد عزل “السَّرِيّ”، وجعل “أبا ذكر بن جنادة” على الشرَّْطة فقسا على المِصريِّين، وكان لما وصل خبر ذٰلك إلى “سُلَيمان” أنه أبعده عن مسؤولية الشرَّْطة. لٰكن الأحوال لم تستمر هٰكذا: إذ ساءت الأمور بين حاكم “مِصر” وجندها حتى تقاتلا؛ فعزله الخليفة “المأمون”، وأعاد “السَّرِيّ” لحُكمها بعد أن حكم “سُلَيمان” قرابة خمسة أشهر. وهٰكذا مر بـ”مِصر” في ذٰلك العام ثلاث حِقَب من الحكم: بدأها “السَّرِيّ”، ثم “سُلَيمان”، ومن بعده “السَّرِيّ” مرة ثانية؛ الأمر الذي يوضح كثرة الاضطرابات التي كانت تعانيها البلاد آنذاك. وفي ذٰلك العام عهد “المأمون” بالخلافة من بعده إلى “عليّ الرضا” ما زاد الفتن في أنحاء “الدولة العباسية” ـ وبخاصة “بغداد” كما ذكرنا في مقالة سابقة. و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ