يحتفل مَسيحيُّو العالم اليوم بعيد “أحد السَّعَف” أو “أحد الشَّعانين”؛ و”السَّعَف” يرجِع إلى استقبال الجُموع للسيد المسيح في أثناء دُخوله “أورُشليم”، حاملةً سَعَف النخيل وأغصان الشجر. أمّا كلمة “شَعانين” فهي تعود إلى هُتاف الشعب في ذٰلك الاستقبال: “هُوشَعْنا لابن داود” التي تعني: “خلِّصنا يا ابن داود”.
استُقبل السيد المسيح في ذٰلك اليوم استقبالاً شعبيًّا حافلاً، إذ سمِعت الجموع أنه صاعد إلى “أورُشليم” من أجل الاحتفال بـ”عيد الفصح”؛ وكان في اليوم السابق أنه صنع أعجوبة كبيرة حين أقام من الموت صديقًا له يحبه يُدعى “لَعازر” بعد أن مر عليه أربعة أيام في القبر!! ما جعل جموعًا كثيرةً من الشعب تستقبله، فيقول الكتاب: “وفي الغد سمِع الجمع الكثير الذي جاء الى العيد أن يسوع آتٍ إلى أورُشليم، فأخذوا سُعوف النخل وخرجوا للقائه … وكان الجمع الذي معه يشهد أنه دعا لعازر من القبر وأقامه من الأموات. لهٰذا أيضًا لاقاه الجمع، لأنهم سمِعوا أنه كان قد صنع هٰذه الآية. فقال الفَرِّيسيُّون بعضهم لبعض: «اُنظروا! إنكم لا تنفعون شيئًا! هوَذا العالم قد ذهب وراءه!».“.
أنواع من الجُموع
لقد تنوعت فئات البشر الذين استقبلوا السيد المسيح في أثناء دخوله إلى “أورُشليم”:
فمنهم من تبِعه لأنه سمِع عن معجزاته وتعاليمه التي كان يقدمها للشعب فأراد أن يراه؛ مثل تلك الفئة لم تكُن قد عرَفت شخص السيد المسيح مِن كَثَب بل سمِعت عن أمور خارقة للطبيعة يفعلها فأرادت التحقق منها فقط؛ أو ربما وضعت آمالها في أن ينقذها من معاناتها والحياة القاسية التي تمر بها؛ إن تلك الفئة لم تُدرك أو تعرِف شخص السيد المسيح لذٰلك سريعًا ما تحولت عنه؛ إنها مجرد أصوات تنطلق أصداؤها في الفضاء لتدوي، وفورًا تخبو سريعًا!
فئة أخرى هي أولٰئك الذين أكلوا وشبِعوا من الخَمْس الخبزات والسمكتين حين كان يعلمهم في البرّية، فكل ما يحتاجونه ويرغبون فيه هو مزيد من العطايا؛ تلك الفئة من البشر لم يكن شاغُلها الأول هو معرفة السيد المسيح أو تعاليمه وإنما إشباع حاجاتها فقط، هم قوم لم يعرِفوه جيدًا ولم يحاولوا معرفته، بل هم يدورون في فلك ذواتهم فقط.
ومن بين الجموع التي تبِعته أناس شفى أمراضهم وتحنن عليهم في ضيقهم وآلامهم؛ وجال في وسطهم يشفي نفوسهم ويعلمهم، لم يرفضهم بل قبِل كل نفس أقبلت إليه مهما كانت أخطاؤها؛ وبذٰلك صار لهم سند يعضد ضعفهم، فأحبوه وأرادوا أن يتبعوه؛ إنها نفوس بسيطة من الشعب شعرت بمحبة السيد المسيح اللانهائية لها فلم تستقبله فحسب بل شاركت في موكبه: إذ وضع بعضٌ ثيابهم في الطريق ترحيبًا به، في الوقت الذي حمل بعض آخر سَعَف النخيل وأغصان الزيتون لاستقباله في إشارة إلى إعلان المحبة والطاعة والولاء له.
في تلك الأثناء، كان وسط تلك الجموع بعضٌ يخشَون ازدياد مكانة السيد المسيح ومحبة الشعب له فيُنتقص من سلطانهم وسطوتهم؛ فانضموا إلى الشعب يترقبونه كي ما يشتكون عليه؛ ومن تلك الفئة الفَرِّيسيُّون الذين حينما رأَوا استقبال الشعب له قال بعضهم لبعض: “اُنظروا! إنكم لا تنفعون شيئًا! هوَذا العالم قد ذهب وراءه!”، ومنهم أيضًا رؤساء الكهنة والكتبة الذين اعتراهم غضب شديد حين سمِعوا صوت تهليل الأطفال له.
إلا أنهم جميعًا آنذاك لم يُدركوا رسالة السيد المسيح الحقيقية: إذ كانوا يعتقدون أن المسيح يأتيهم ملكًا أرضيًّا يُزيح عنهم سطوة الإمبراطورية الرومانية التي كانت تحتل البلاد في ذٰلك الزمان ـ فقد كان الشعب يئن كثيرًا تحت وطئة ذٰلك الاحتلال المرير ـ ولٰكن الأمر لم يكُن هٰكذا.
ملك المحبة
لقد قدم السيد المسيح في أعماله وتعاليمه “قوة المحبة” التي يمكنها أن تغير حياة البشر؛ ففي المحبة: يسلك البشر بإنسانية تترفق بالجميع وتضمد جراحاتهم، تشاركهم آلامهم وأحزانهم وأفراحهم؛ فتسري بين القلوب لتتكاتف جميعًا في أنشودة سمائية فتتحول الأرض إلى سماء، والضعف إلى قوة، والموت إلى حياة.
لقد تخطت المحبة التي علَّمها السيد المسيح لتلاميذه والشعب حُدود الأصدقاء والأهل، حتى إنها أصبحت للجميع بلا تمييز بينهم؛ وهٰكذا صارت تدريب للإنسان كي ما يقتفي آثار محبة الله لجميع البشر إذ أنه – تبارك اسمه – يسكب خيراته على الكل، فيعلم السيد المسيح في العظة على الجبل: “سمِعتم إنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدُوك. وأمّا أنا فأقول لكم: أحِبوا أعداءكم. بارِكوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السمٰوات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطِر على الأبرار والظالمين.”.
لقد انتقلت رسالة المحبة عبر الأجيال فعلَّم بها التلاميذ إذ قيل: “أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضًا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب لم يعرِف الله، لأن الله محبة … إن قال أحد: «إني أحب الله» وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟ ولنا هٰذه الوصية منه: أن من يحب الله يحب أخاه أيضًا.”، بل قد صارت لهم حياة يعيشونها ويراها الجميع في أعمالهم.
ملك السلام
إن كانت الجموع قد استقبلت السيد المسيح بسَعَف النخيل وأغصان الشجر التي تشير إلى السلام، فإنّ صنع السلام هو تعليم أساسيّ قدمه السيد المسيح في تعاليمه فطوَّب كل من يصنع السلام بل دُعوا أبناء الله: “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون”. والسلام هو نتاج المحبة الحقيقية البعيدة عن الرياء والغش؛ فمن يتعلم درس المحبة يجد نفسه يسلك في طريق السلام. من يبحث عن السلام، فعليه أولاً أن يملأ قلبه بالمحبة نحو الجميع؛ وهٰكذا يسود بينه وبين الآخرين سلام لا يُنزع.
إن القوة الحقيقية، وإن كانت تختلف مع مفهوم العالم عن القوة، تكمن في قدرة الإنسان على التغلب على الكراهية والعنف والضغينة التي تحول حياته إلى قلق واضطراب ونزاعات دائمة. ماذا يمكن أن يقدم العالم بأسره لإنسان امتلأت حياته بالاضطرابات والانزعاجات؟!! أو: ماذا يربح الإنسان، وهو يملِك كل شيء، وفي أعماقه افتقاد حقيقيّ للسلام والراحة والطمأنينة؟!! يقدم لنا التاريخ نماذج لأباطرة وملوك كانوا يملِكون كل شيء ولٰكن لم يعرِفوا معنى السعادة قط!! إذ كانت حياتهم تمتلئ بالمخاوف والقلق والاضطرابات من كل إنسان، حتى إنهم قضَوا على أقرب الناس لديهم!!
لقد قدم العالم مفهوم القوة في السيادة والتسلط: فهل أدرك من اتبع تلك الخطى حياة الفرح والسلام؟! لا أعتقد. يذكر لنا التاريخ أنه ذات يوم، بعد انتصاراته على معظم بلاد “أوروبا”، وقف الإمبراطور الفرنسي “نابليون بونابرت” بين قواده وهو يحمل بين يديه خريطة العالم، وكان من المتوقع أن يكون سعيدًا بما حققه من انتصارات سُجلت على صفحات التاريخ، لٰكن على النقيض: كانت ملامحه تكتسي بعلامات الضيق والاكتئاب!! ثم أشار إلى نقطة حمراء على الخريطة، قائلاً: “آه! لولا هٰذه النقطة الوحيدة لاعتبرتُ نفسي قاهرًا لكل العالم”!!
نطلب إلى الله في يوم المحبة والسلام أن تمتلئ “مِصر” بالسلام، وبالمحبة التي توطد بين المِصريِّين جميعًا، كما نطلب من أجل سلام العالم. كل عام وجميعكم بخير.و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي