تحدثنا في مقالة سابقة بعُِنوان “قلاقل .. غلاء !!!” عن “البابا يعقوب” البطريرك الخمسين في بطاركة “الإسكندرية” (٨١٩-٨٣٠م)، الذي عاصر زمانًا صعبًا من حُروب وقلاقل مرت بـ”مِصر” وشعبها، وبصفة خاصة تلك الحقبة التي اشتدت فيها الحرب بين الأندلسيِّين والمِصريِّين في “الإسكندرية”؛ وكان عند بداية جُلوسه على السُّدة المَرقسية أنه كتب مقالة ضد الهراطقة يحرمهم فيها، وكان دائم الاهتمام بتعليم شعبه وتثبيتهم على التعاليم الأرثوذكسية السليمة التي تسلمتها الكنيسة الأولى من السيد المسيح والآباء الرسل وآباء الكنيسة الأولين وأقرتها مجامع الكنيسة الثلاثة. وكانت تربِطه بـ”كنيسة أنطاكية” رُبُط المحبة والمودة. وفي تلك الحقبة أيضًا احتكر “الجَرَويّ” القمح حتى صار غلاء عظيم وارتفع سعره ارتفاعًا شديدًا في “مِصر” و”الإسكندرية” وهو ما سبّب هلاك أناس كثيرين من الشعب. وكان بعد أن قُتل “الجَرَويّ” في الحرب أن تولى ابنه “عليّ” منصب أبيه، لٰكنه لم يسلك مثله فمنع الظلم عن الناس واستراح كثيرون؛ فعم رخاء عظيم على البلاد وهدأت قليلاً أيام الضيقة.
اهتمام ورعاية
كان “البابا يعقوب” دائم الاهتمام بشعبه ومنه أبناؤه الرهبان، فبعد عودة الحياة الرهبانية كسابق عهدها في “برّية شِيهِيت” (وادي النطرون)، بعد ما تعرضت له من خراب في أيام “البابا مَرقس الثاني”، اهتم ببناء الصوامع (مساكن الرهبان) والكنائس هناك. وبعد حين، رأى الأب البطريرك أن كنيسة “القديس أنبا شنوده” الذي قام ببنائها سابقًا لا تتسع لعدد الرهبان المتزايد فشرع في بناء كنيسة باسم “القديس مكاريوس”.
أيضًا تعددت زيارات “البابا يعقوب” لشعبه في الصَّعيد، مفتقدًا أبناءه، ومثبتهم على التعاليم القويمة. وقد وهب الله البابا البطريرك مواهب جزيلة بسبب صلاحه وبره، حتى إنه أجرى على يديه كثيرًا من معجزات الشفاء في أيامه شهِد عنها كثيرون في زمانه؛ ومنها ما حدث مع “مقار النبراويّ” الأَرخُن الذي كان إنسانًا خيّرًا لا يرد سائل يَطرُق بابه ويقدم عطايا كثيرة للمحتاجين: فقد حدث أنه رغِب في رؤية البابا البطريرك فدعاه إلى منزله ليباركه فلبى “البابا يعقوب” دعوته وحضر إليه؛ فسُرّ “مقار” سُرورًا عظيمًا وأقام وليمة كبيرة وقدم صدقات كثيرة؛ وبينما الجميع يشملهم السرور، مرِض ابن “مقار” ومات! فاضطرب الجميع إلا “البابا يعقوب” إذ طلب من الأَرخُن “مقار” أن يُحضر الصبيّ إليه، ثم صلى من أجله حتى عادت إليه الحياة ورده إلى أبيه!! فما كان من الأب إلا أنه أكثر من عمل الخير وتقديم الصدقات للمحتاجين، وبنى في مدينة “أورُشليم” (“القدس”) كنيسة للأرثوذكس وهي تُعرف باسم “المجدلانية”.
سيرة حسنة
فاحت سيرة ذٰلك الأب البطريرك العطرة إلى البلاد الأخرى، حتى إن بطريرك أنطاكية “دِيونِيسيوس” ـ الملقب بحكيم القرن التاسع ـ رغِب في لقائه ورؤيته ولم يمنعه سوى الحروب التي شهدتها “مِصر” قرابة أربعة عشَر عامًا؛ لٰكنه أخيرًا تمكن من الحضور في أيام “عبد الله بن طاهر” (٢١١-٢١٢هـ) (٨٢٦-٨٢٧م) حاكم “مِصر”، ليشكو إليه تصرفات أخيه الظالمة في “أديسا” ـ التي تُعرف أيضًا باسم مدينة “الرها” التي تقع ما بين النهرين في الجزء الشَّماليّ من “نهر الفرات”؛ فأرسل “عبد الله” خطابًا يحذر فيه أخاه من التعدي على الكنائس، طالبًا منه أن يعامل المَسيحيِّين معاملة حسنة عادلة؛ وفي هٰذا تذكر المؤرخة “إيريس حبيب المِصري” فتقول: “… إذ قد سلّمه «ابن طاهر» خطابًا إلى أخيه ينصحه فيه بعدم التعرض للكنائس، ويحُثه على حسن معاملة المَسيحيِّين في جميع أنحاء البلاد الأنطاكيّة، ثم بيّن له كيف أنه هو قد أطلق للقِبط الحرية في بناء كنائسهم والتصرف في شُؤونهم الإدارية والقانونية حسب ما يتفق ومبادئهم الدينية.”. وقد عُرف عن “عبد الله بن طاهر” عدله؛ وفي هٰذا يذكر المؤرخ “ساويرس بن المقفع” عنه: “وكان: رجلاً خيّرًا، رحومًا في دينه، محبًا للعدل، مبغضًا للظلم؛ ومن أجل ذٰلك أخضع الله له كل عاصٍ، وأذل أمة الأندلسيِّين التي بـ«الإسكندرية»، وأقام بـ”مِصر” أيامًا حتى استقامت له الأمور.”؛ وبذٰلك استتب السلام والخير وروح العدل من “عبد الله بن طاهر” إلى وُلاة آخرين؛ فعم السلام البلاد إلى حين.
وقد زار البطريرك الأنطاكيّ “مِصر” مرتين: الأولى حين التقى حاكم مِصر “عبد الله بن طاهر”، والثانية حين زار “البابا يعقوب”؛ وفي أثناء وُجوده في “مِصر” استقبله الأقباط وعلى رأسهم “البابا يعقوب” في مكان سكناه ـ وقد قيل إنه نزل بمدينة “صان” (“الشرقية”) ـ استقبالاً حافلاً. وعاد البطريرك الأنطاكيّ بعد زيارته وهو يتحدث عن “البابا يعقوب” وأقباط مِصر: “وجدتُ بطريركهم وأساقفتهم: أتقياء، ورِعين، متواضعين، يحبون الله ويخافونه من كل قلوبهم؛ وقد أكرموا مثوانا وأظهروا لنا كل بشاشة ولطف مدة وجودنا في «مِصر» مما نشكرهم عليه شكرًا مستفيضًا.”، كما تحدث أيضًا عن قداسة “البابا يعقوب” وهيبته وعفافه حتى قال عنه: “كما سمِعنا كذٰلك رأينا. أنا أومن أني شاهدت إنسانًا له عند الله منزلة أن يشفع في كورة «مِصر»”.
كان من عادة “البابا يعقوب” أنه إذا أراد أن يقِيم أساقفة في الكنيسة أنه يصلي طوال الليل ويصوم طويلاً منقطعًا عن الطعام والشراب حتى يُظهر له الله أعمالهم واستحقاقهم؛ وفي زمن توليه رئاسة الكنيسة تنيح أحد أساقفة الصَّعيد، فأرسل إليه أهل المدينة إنسانًا ليقِيمه أسقفًا؛ إلا أن ذٰلك الرجل خاف من البابا البطريرك أن لا يقِيمه أسقفًا فطلب وساطة جابي الضرائب!! وكان يُدعى “إيليا بن يزيد”، فقدم له مالاً ليأمر البطريرك برسامته!!! فرفض البابا البطريرك مخالفة القوانين الكنسية. ولٰكن الأساقفة تدخلوا لدى البابا لسيامته خوفًا من حدوث ضيق وشدة على الكنيسة، فما كان من أمر ذٰلك الإنسان إلا أن مات قبل أن يصل إلى كرسيه في إيبارشيته. كما كان البابا يهتم بتَذكارات الآباء الذين سبقوه مبتدئًا من “مار مَرقس الرسول” حتى “البابا مَرقس” أبيه الروحيّ.
وعند اقتراب انتقال “البابا يعقوب” من هٰذا العالم، مرِض قليلاً وضعفت قوته؛ وفي أمشير عام 546 ش/ فبراير 830م تنيح البابا البطريرك تاركًا أتعاب هٰذا العالم، بعد أن اعتلى الكرسيّ المَرقسيّ عشْر سنين وثمانية أشهر؛ وقد خلفه على كرسيّ “مار مرقس الرسول” “البابا سيمون”.
“البابا سيمون” (830م)
هو الحادي والخمسون في بطاركة “الإسكندرية”. كان راهبًا شماسًا وتلميذًا “للبابا يعقوب”، مقيمًا بقلاية البطريرك. وقد تربى منذ صباه مع “البابا مَرقس الثاني” واستمر مع خليفته “البابا يعقوب”. وكان مشهودًا له بمحبته للجميع، وغيرته على الإيمان السليم. فما إن انتقل “البابا يعقوب” بمدة قليلة حتى اختير عوضًا عنه ورسمه الآباء الأساقفة بطريركًا. لٰكنه لم يمكث طويلاً إذ تنيح بعد عدة أشهر، وذكر بعض المؤرخين أنها سبعة أشهر، في حين قال آخرون إنها خمسة أشهر ونصف الشهر تقريبًا. وكان يعاني مرض “النقرس” متألمًا منه بشدة حتى انتقل من هٰذا العالم. وقد أجمع المؤرخون على أن زمن رئاسة كان هدوءًا وسلامًا. ولٰكن تكُن نياحته إلا بداية حقبة من الاضطرابات والقلاقل في الكنيسة استمرت عامين، حتى خلفه “البابا يوساب” على “كرسيّ الإسكندرية” ليصبح البطريرك الثاني والخمسين في بطاركتها. و … وعن “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي