استكملنا الحديث فى المقالة السابقة عن الخليفة «المتوكل» وعَلاقته بـ«العلويِّين»، ونهاية القائد التركى «إيتاخ». ثم عرضنا للفتن والاضطرابات التى انتشرت فى: «سَجَسْتان»، و«أَذِرْبَيچان»، و«مِصر»، و«أرمينيا»، و«سوريا»، و«اليمن»، إضافة إلى ذلك: عدم توقف الحرب بين الدولتين العباسية والبيزنطية.
خطأ يتكرر
تبِع «المتوكل» خُطوات جَده «هارون الرشيد» فى أمر تولية البلاد، فمع نهاية عام 235هـ (850م) عقد ولاية العهد لأبنائه الثلاثة «المنتصر» و«المعتز» و«المؤيَّد»، مقسِّمًا الدولة بينهم: فولَّى «المنتصر» الدول الغربية: «إفريقية» و«المغرب» كله- من عريش «مِصر» إلى بلاد المغرب- والعواصم والثُّغور السورية وديار «مِصر» و«ربيعة» بـ«المُوصل» وكُور «دجلة» و«الحرمين» و«اليمن» و«حَضْرَمَوت» و«اليمامة» و«البحرين»، وغيرها من البلاد، فى حين كان نصيب «المعتز» شرق «الدولة العباسية» فولّاه: «خُراسان» وما يتبعها، و«طَبَرِستان»، و«الرَِّىّ»، و«أرمينيا»، و«أَذِرْبَيچان»، و«فارس» وما يتبعها، ثم ضم إليه بعد ذلك خزائن بُيوت الأموال فى جميع النواحى، وأمر بضرب اسم «المعتز» على عملة الدرهم، فى الوقت الذى ولَّى «المؤيَّدَ» جندَ «دمَِشق» وجُند «حِمْص» وجُند «الأردنّ» و«فِلَِسطين».
كتب «المتوكل» كتابًا بين أبنائه من أربع نسخ: وضع إحداها فى خزائنه، وأخذ كل ابن من أبنائه نسخة، ويذكر المؤرخون أن الكتاب يُعد وثيقة استقلال كل ابن فيما أُوكل إليه: وقد جعل «المتوكل» لابنَيه «المعتز» و«المؤيَّد» تمام الاستقلال فى أعمالهما إذا آلت الخلافة إلى «المنتصر».. وكذلك جعل على «المعتز» «للمؤيَّد» إذا آلت الخلافة «للمعتز». وكما أحدث تقسيم الدولة الصراع بين كل من «الأمين» و«المأمون»، كذلك بدأت الفتن والقلاقل فى الدولة بسبب ذلك التقسيم، فانبرى كل أخ ينافس أخاه، وفُتحت الأبواب على مِصراعيها للدسائس واتخاذ أعوان يساعدون كل أخ فى التغلب على الأخوين الآخرَين.
مقتل «المتوكل»
مع ازدياد سطوة الأتراك، بدأ الخليفة «المتوكل» فى التغير نحو قواده فعمِل على التخلص منهم واحدًا تِلو الآخر، وما إن شعروا بذلك حتى بدأوا هم أيضًا فى تدبير وسيلة للتخلص منه. لم يجد القواد الأتراك سبيلاً أيسر من استخدام الخلافات والغَيرة بين الإخوة- وبالأخص «المنتصر» و«المعتز»- ليلتفوا حول «المنتصر» محرضين إياه على التخلص من أبيه بسبب أنه كان يقدم أخاه «المعتز» عليه فى كثير من أمور الدولة، وفى الصلاة بالناس. وفى الوقت نفسه، كان وزير «المتوكل» لا يرغب فى أن يؤول الحكم إلى «المنتصر» فأخذ فى نَُصح الخليفة «المتوكل» أن يقدِّم «المعتز» على أخيه. ويذكر المؤرخ «التَّغرى» أن «المتوكل» أراد خلع «المنتصر» عن ولاية العهد وتقديم «المعتز» عليه، فأبى «المنتصر» فبدأ «المتوكل» فى توبيخ ابنه علانية، وهكذا امتلأ «المنتصر» غضبًا وانتهز الأتراك تلك الفرصة للتخلص من «المتوكل».
فى عام 247هـ (861م)، دخل الجُنود الأتراك على الخليفة فى مجلسه وقتلوه هو ووزيره. ويذكر أحد المؤرخين أن تلك الواقعة هى: «أول ثمرة لغرس (المعتصم)، فإنه ملَّك الخلافة قومًا لا حُلُوم (عُقول راجحة) لهم، وليس لهم من الأخلاق ما يمنعهم مما فعلوا، ولا من العصبية (المحاماة والمدافعة عنهم) ما يجعل جانبهم مأمونًا، وأجَلّ من ذلك أن يكون ولى العهد شريكًا فى دم أبيه!».
ومما قال «البُحتُرىّ» عن تلك الواقعة المُخزية، راثيًا «المتوكل»:
أَكَـانَ وَلِـيُّ الْعَـهْدِ أَضْمَـرَ غـدْرَةً؟ فَمِنْ عَجَبٍ أَنْ وُلِّيَ الْعَهْـدَ غَـادِرُهُ
فَلَا مُلِّيَ الْبَاقِى تُرَاثَ الَّذِى مَضَى وَلَا حَمَلَتْ ذَاكَ الدُّعَاءَ مَنَابِرُهُ!
وهكذا قُتل الخليفة «المتوكل» بعد حكم قارب خمس عشْرة سنة.
أمّا عن حكام «مِصر» فى تلك الحِقبة، فقد بدأ عصر الخليفة «المتوكل»، وكان «عيسى بن منصور» فى حكم «مِصر» واستمر أربع سنين وثلاثة أشهر ونصف الشهر تقريبًا (228- 233هـ) (843- 847م)، وقد أرسل إليه «المتوكل» من أجل أن يأخذ البَيعة له من المِصريِّين، وما إن أتم ذلك حتى عزله عن حكم «مِصر» ووضع بدلاً منه «هَرْثَمة بن نصر».
«هَرْثَمة بن نصر» (233- 234هـ) (847- 849م)
يُطلق عليه اسم «هَرْثَمة بن نصر الجَبَلى»، نسبةً إلى كونه من أهل الجبل، وهو غير «هَرْثَمة بن أعيَن» الذى حكم «مِصر» فى أيام الخليفة «هارون الرشيد»، وقد تولى حكم «مِصر» من قِبل الأمير التركى «إيتاخ» نائبًا عنه، فى أيام «المتوكل» بعد عزل «عيسى بن منصور». وقد أرسل نائبًا عنه إلى «مِصر» حتى حضر وتولى أمورها وسكن بمنطقة العسكر. وقد جاءته رسائل الخليفة فى زمن حكمه بإنهاء الجدل العقيدى واتّباع السُّنة ورفع المحنة، وكان «هَرْثَمة» يحب السُّنة فأخذ فى العمل بها وإظهارها. إلا أنه مرِض ومات عام 234هـ (849م) فكانت مدة ولايته على «مصر» عامًا وثلاثة أشهر وبضعة أيام.
فى زمن حكمه وقع زَلزال عظيم فى «دمَِشق» قتل عددًا كبيرًا جدًّا، حتى إن القاضى «أحمد بن كامل» ذكر عن ذلك الحدث فى تاريخه: رأى بعض أهل «دَير مُرَّان» (وهو دَير قرب «دمَِشق» يقع على أحد التلال) «دمَِشق» تنخفض وترتفع مِرارًا، فمات تحت الردم معظم أهلها.. وكانت الحيطان تنفصل حجارتها بعضها من بعضها مع كون الحائط عرض سبعة أذرع، ثم امتدت هذه الزلزلة إلى «أنطاكية» فهدَّمتها، ثم إلى الجزيرة فأخربتها، ثم إلى «المُوصل». وبسبب تلك الزلازل مات آلاف من البشر قيل إن من هلك من «المُوصل» كان قُرابة خمسين ألفًا، ومن «أنطاكية» عشرين ألفًا. تولى حكم «مِصر» من بعد «هَرْثَمة» ابنه «حاتم بن هَرْثَمة» باستخلاف أبيه له فأقره الخليفة «المتوكل».
«حاتم بن هَرْثَمة» 234هـ (849م)
هو «حاتم بن هَرْثَمة بن نصر الجَبَلى». تولى «مِصر» بعد موت أبيه بأمر من الأمير «إيتاخ»، وسكن فى مَِنطَِقة العسكر بـ«مصر» كعادة الأمراء. إلا أنه لم يظل بالحكم سوى شهر واحد وثلاثة عشَر يومًا، إذ وصله كتاب من القائد «إيتاخ» بعزله عن الحكم وتولية «على بن يَحيَى الأرمنى» على «مِصر» مرة ثانية. ويذكر المؤرخون عنه: وكان «حاتم» هذا جليلاً نبيلاً، وعنده معرفة وحُسن تدبير، إلا أنه لم يُحسن أمره مع «إيتاخ». وشهِد عام 234هـ (848- 849م) حكم ثلاثة أمراء على «مِصر»: «هَرْثَمة»، ثم ابنه «حاتم»، ومن بعده «علىّ بن يَحيَى»، وعددًا من الأحداث منها: هبوب ريح استمرت خمسين يومًا لم يُرَ مثيل لها وقيل إنها كانت شديدة السُّموم وتسببت فى قتل المسافرين، وإنها أحرقت الزروع فى «الكوفة» و«البصرة» و«بغداد»، ثم وصلت إلى «هَمَذان» و«المُوصل» و«سِنْجار» فقتلت الزروع والمواشى وأهلكت كثيرين من أهلها، كما شهد ذلك العام بَدء ثورة «مُحمد بن البُعيث» فى «أَذِرْبَيچان»، وتولية الخليفة «المتوكل» للقائد «إيتاخ» إمارة «الكوفة» و«الحجاز» و«تُهامة» و«المدينة»، إضافة إلى «مِصر»، ثم دبر لقتْله!
و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ