تحدثنا فى المقالة السابقة عن خلع الخليفة «المعتز» من قِبَل جنوده، وخلافة «مُحمد المهتدى بالله» (255- 256هـ) (869- 870م) من بعده. ولم تمضِ أشهر قلائل حتى اندلعت الحرب بين الخليفة «المهتدى» وجنوده، وانتهت بالقبض على الخليفة وخلعه، لتَضحَى مدة حكمه أحَد عشَر شهرًا وخمسة عشَر يومًا تقريبًا. ثم قدمنا حكام «مِصر» فى ذلك الوقت: «مزاحم بن خاقان»، ثم «أحمد بن مزاحم»، الذى تولى حكم «مِصر» باستخلاف أبيه له بعد مرضه، ومن بعده «أرخوز بن أولوغ طرخان» التركىّ، الذى قضَّى فى الحكم خمسة أشهر ونصف الشهر، ثم تولّى «أحمد بن طولون» حكم «مِصر»، وهو الذى أسس «الدولة الطولونية» فيها.
قيام «الدولة الطولونية» فى «مِصر» (254- 292هـ) (868- 905م)
كان القائد «بايكباك» هو الذى يدير أمور «الدولة العباسية» بعد مقتل «بُغا»، ثم أضاف إليه الخليفة «المعتز» ولاية «مِصر» وترك له أمر إدارتها وتعيين مَن يحكمها أو مَن ينوب عنه فى تسيير أمور الحكم. وفى عام 254هـ (868م)، اختار «بايكباك» الأمير «أحمد بن طولون» نائبًا عنه فى «الفسطاط» فتولى أمورها.
«أحمد بن طولون» (254- 270هـ) (868- 884م)
هو «أبوالعباس أحمد بن طولون». كان أبوه أحد المماليك، الذين قام حاكم «بُخارَى» و«خُراسان» بإهدائهم للخليفة «المأمون بن هارون الرشيد»، فترقى حتى صار من الأمراء، وقد وُلد له ابنه «أحمد»، وإن كان بعض المؤرخين فى ذلك الأمر منقسمين إلى فرقتين: الأولى تذكر أنه ابنه المولود عام 220هـ (835م)، والثانية تذكر أن «أحمد» هذا لم يكُن ابنًا له وإنما تبناه لِما رآه فيه من ذكاء وفطنة.
ويذكر «التَّغرىّ» قصة رواها المؤرخون أن «أحمد» دخل على «طولون» يومًا يطلب إليه أن يأمر بشىء لقوم ضعفاء مروا ببابهم، فطلب منه أن يأتيه بدَواة حبر من المقصورة، وفى طريقه رأى جارية له وهى تفعل الخطيئة مع خادم، فما كان من «أحمد» إلا أن أخذ ما أُمر بإحضاره ماضيًا فى طريقه ولم يتحدث بالأمر. لكن الجارية خشِيَت أن يسبقها «أحمد» بالحديث لدى «طولون» فأسرعت تشكو إليه «أحمد» أنه راودها عن نفسها! فصدقها «طولون» ولم يتحرَّ الأمر ولم يواجه «أحمد» بما قيل، ثم طلب من «أحمد» أن يسلم رسالة منه إلى أحد الأشخاص، وكان قد كتب فيها أمرًا بقتل حاملها وإرسال رأسه إليه! أسرع «أحمد» بالرسالة لتسليمها دون أن يعرِف مضمون ما كُتب فيها، وفى طريقه التقى مرة ثانية الجارية التى حاولت أن تشاغله بالكلام كى تُثبت ما قالته فيه فيزداد غضب «طولون» عليه: طلبت إليه الجارية أن يكتُب لها رسالة، وعندما اعتذر من أجل الإسراع بالرسالة التى يحملها، أخذتها منه ودفعتها إلى ذلك الخادم لتوصيلها. ولما قُرئت الرسالة ضُرب عنق ذلك الخادم، وأُرسلت رأسه إلى «طولون» فتعجب، واستوضح الأمر من «أحمد» ثم «الجارية» فأقرت بحقيقة الأمر فقتلها، وزادت مكانة «أحمد» لدى «طولون».
أمّا عن نشأة «ابن طولون»، فقد ذُكر أنه كان محبًّا للعلم، وقد حفظ «القرآن» وأتقنه، وكان ذا صوت جميل، كما أنه تربى تربية عسكرية تختلف عن تلك التى لأقرانه، وكان يحرِص على الابتعاد عن العبث والإثم، ولا يقبل ما يقوم به الأتراك من أعمال. خدم «أحمد بن طولون» فى ثُغر «طرسوس» التى كانت لها أهمية استراتيجية وعسكرية لوقوعها على الحُدود بين «آسيا الصغرى» و«الشام» حيث حدود «الدولة العباسية» مع «الدولة البيزنطية». تزوج «أحمد بن طولون» من ابنة عمه وولدت له «العباس». وبعد موت أبيه «طولون»، دفع إليه الخليفة «المتوكل» جميع ما كان لأبيه وتولى حكم الثغور فـ«دمشق»، ثم «مِصر».
عُرف عن «أحمد بن طولون» الشجاعة والإقدام، فيُذكر أنه خرج من «طرسوس» قاصدًا العودة، ومعه قرابة خمسمائة رجل وخادم الخليفة («المستعين» آنذاك)، فكان عند وصولهم «الرَّها» أن حذرهم قوم منها أن يقيموا بالحصن إلى أن يتفرق جماعة قطاع طريق كانوا ينتظرونهم لسلبهم. إلا أن «أحمد بن طولون» رفض وأكمل المسير، فالتقى قطاع الطريق وحاربهم ببسالة حتى قتل بعضهم وفر آخرون. وعند وصول خادم الخليفة إليه، قص عليه شجاعة «ابن طولون»، وقيل إن الخليفة أرسل إليه مع خادمه ألف دينار سرًّا وقال له: «عرِّفه أننى أحبه، ولولا خوفى عليه لقرَّبتُه!». وعندما خُلع «المستعين» طلب إليه الأتراك اختيار شخص يصحبه فكان «أحمد بن طولون»، ويُذكر أنهم كتبوا إلى «ابن طولون» أن يقتُل «المستعين» ويمنحوه ولاية «واسِط»، فأجابهم فى رسالة: «لا رآنى الله قتلت خليفة بايعتُ له أبدًا!». وقتل الحاجب «المستعين» ووارى «ابن طولون» جثته.
أقام «ابن طولون» فى «سامَرّا» بعد قتل «المستعين»، وتولى حكم «مِصر» نيابة عن أميرها «بايكباك» عام 254هـ (868م)، وظل «أحمد بن طولون» نائبًا عن القائد «بايكباك» فى إدارة شُؤون «مِصر» إلى أن قُتل فى أيام الخليفة «المهتدى» وآل حكم «مِصر» من بعده إلى «يارجوخ» الوالى التركى حما «ابن طولون»، فاستمر «أحمد بن طولون» نائبًا عن «يارجوخ» فى حكم «مِصر»، بل زاده «يارجوخ» فى سلطته بأن استخلفه على «مِصر» كلها، باستثناء جمع الضرائب الذى ظل بيد «أحمد بن المدبر» الذى اشتُهر بسوء السيرة، ثم أضيف إليه حكم «الشام» مع «مِصر» بسبب انتشار الاضطرابات بها، وقد ذكر البعض قوله: غاية ما وُعدت به فى قتل «المستعين» ولاية «واسِط»، فتركتُ ذلك لله تعالى، فعوضنى ولاية «مِصر» و«الشام». ولما تُوفِّى «يارجوخ» عام 259هـ (873م) صار «أحمد بن طولون» حاكمًا على «مِصر» من قِبل الخليفة مباشرة.
ذُكر أنه مع بداية حكم «ابن طولون» على «مِصر» تصديه لعدد من الثوْرات، منها:
ثورة «بُغا الأصغر»
عام 255هـ (869م)، قام «بُغا الأصغر»- ويُدعى «أحمد بن مُحمد بن عبدالله طَباطَبا»- بمغادرة «العراق»، قاصدًا مع بعض أتباعه مكانًا بين «الإسكندرية» و«بِرقة»، ثم اتجهوا إلى الصَّعيد، فأرسل إليه «أحمد بن طولون» جيشًا هزمهم وأتى برأس «بُغا» إلى «الفسطاط».
ثورة «ابن الصوفىّ» العَلَوىّ
قام «ابن الصوفىّ»- وهو «إبراهيم بن مُحمد بن يَحيى بن عبدالله بن مُحمد بن عمر بن علىّ بن أبى طالب»- بثورة فى «مِصر العليا» عام 253هـ (867م)، وتمكن من الاستيلاء على «إسنا» عام 255هـ (868م)، فنهَب أهلها وقتل منهم حتى أصبح مصدر تهديد وخطر على أمن البلاد، فأرسل إليه «ابن طولون» عام 256هـ (869م) جيشًا، لكن «ابن الصوفى» تغلب عليه، فبادر «ابن طولون» بإرسال جيش آخر استطاع التغلب على «ابن الصوفى» بعد معركة دارت رحاها فى «أخميم»، ففرَّ «ابن الصوفى» إلى الواحات، و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ