أحبه المسلمون قبل المَسيحيِّين! كان عالمًا جليلاً وإنسانًا فاضلاً، وُهب كثيرًا من المواهب التي يمكن أن يخدُِم بها “مِصر” و”كنيسته القبطية” فلم يضِنّ بها عليهما ليرسُِم بتِلقائية صورة من العمل المخلص الأمين ألقت بأضوائها المشرقة الخلابة على صفحات التاريخ المِصريّ تروي لنا وللأجيال القادمة قصة “القَسّ أستاذ الجامعة”.
البداية
شهِِد عام 1928م، وبالتحديد في الثاني والعشرين من سبتمبر، ميلاد الطفل “أديب عبد فضل الله” بمحافظة “المنيا”، ممنوحًا من الله مواهب ذهنية فائقة وبدرجة كبيرة في مجال “الرياضيات” ليشق طريقه فيها: إذ حصل على بكالوريوس الرياضيات بمرتبة الشرف عام 1949م من “كلية العلوم جامعة القاهرة”؛ ليُتبعه بدرجة “ماﭼستير الرياضيات التطبيقية” في موضوع “النظرية النسبية العامة” من “جامعة عين شمس” عام 1959م، ثم درجة “الدكتوراة” في أحد التخصصات الرياضية الشديدة الصعوبة والتعقيد: “المتغيرات المركّبة”؛ من “جامعة جوتنجن” بألمانيا الغربية عام 1962م؛ ليصبح أحد المتخصصين النادرين في ذٰلك العلم.
الحياة العملية
بدأت رحلة حياته العملية مدرسًا للرياضيات في التعليم الثانويّ، ثم معيدًا ثم مدرسًا بقسم الرياضيات بـ”كلية العلوم جامعة القاهرة”؛ وفي عام 1968م، أصبح أستاذًا مساعدًا بالكلية ليُنبأ له بمستقبل علميّ عظيم وكفاءة لا تتكرر كثيرًا. ولٰكن تأتي الأيام بمفاجأة لم تمر بفكر د. “أديب” أو بخيال من حوله: إذ دعاه “القديس البابا كيرِلس السادس” إلى الرسامة قَسًّا والتفرغ للخدمة الدينية. رب كثير من الأفكار مر في أعماقه، وسيل من الأسئلة ممن حوله اعترته: عن الوظيفة المرموقة التي يسعى لها كثيرون ولا يتمكنون من الحصول عليها، وعن أسرته، وعن المستقبل!! ولم تكُن لديه إجابات، ولٰكنه وضع كل ثقته في الله.
رفض وقَبول
جاءت الخطوة التالية أن تقدم د. “أديب” باستقالته إلى رئيس قسم “الرياضيات”، في ثقة كاملة أن استقالته ستنال القَبول، ولٰكن تأتي المفاجأة الثانية أن الاستقالة رُفضت في كلمات رئيس القَسّم إليه: “أنا ما عنديش بديل لك، والأمانة العلمية تفرض عليَّ عدم قَبول الاستقالة.”. وبعد حديث مع عميد الكلية، أرسل إليه مكاتبة جاء فيها: “… وقد أبدى د. «أديب» اعتذاره عن استمرارية التعيُّن بالكلية، ولٰكن إزاء حاجة القَسّم القوية إلى خِدْمات د. «أديب»، فقد رأى أن يجمع بين الخدمة الدينية وقيامه بواجباته في الكلية. والقَسّم يشكر د. «أديب» على هٰذا التعاون الكريم، ويرى أن قيام سيادته بالخدمة الدينية لا يعارض بتاتًا قيامه بواجباته في الكلية. لذٰلك فإني أرجو من سيادتكم توجيه خطاب إلى د. «أديب» بأن الكلية لا تمانع في أن يجمع سيادته بين الخدمة الدينية وقيامه بالعمل في الكلية، كما لا تمانع الكلية من حضوره وإلقائه محاضراته بزيّ الكهنوت.”؛ وهٰكذا جاء قَبول الجامعة في جمع د. “أديب” بين العمل الدينيّ والعلميّ، وأن يحاضر بالزيّ الكهنوتيّ، وأعقب هٰذا قَبول موازٍ من “البابا كيرِلس السادس” باستمراره في إلقاء محاضراته بالجامعة! بل تغيرت خُطة الكنيسة في رسامة د. “أديب”؛ فقد أصدرت “بطريركية الأقباط الأرثوذكس” شَهادة ذُكر فيها: “في عام 1970م، وقع اختيار الكنيسة على د. «أديب عبد الله فضل الله» للقيام بالخدمة الدينية بـ«الولايات المتحدة الأمريكية»، وتمت رسامته كاهنًا لهٰذا الغرض. ولٰكن لما تمسكت به «جامعة القاهرة» في ذاك الوقت لحاجتها الماسة إلى خِدْماته وبقائه ضمن هيئة التدريس بالجامعة، فقد رأت الكنيسة العدول عن سفره؛ وذٰلك تقديرًا منها للصالح العام.”؛ وبذٰلك رُسم د. “أديب” قَسًّا باسم “القَسّ مكاري عبد الله” ليبدأ حياة من الخدمة في المجالَين الدينيّ والعلميّ في واقعة هي الأولى من نوعها. وذكرت “جريدة الأهرام” آنذاك: “أول مرة قَسّ يحاضر في الرياضيات البحتة بـ«جامعة القاهرة». قصة د. “أديب” الأستاذ المساعد بالجامعة الذي تحول إلى «القَسّ مكاري»؛ قَدم استقالته إلى «كلية العلوم» للتفرغ للخدمة الدينية، ولٰكن الكلية تمسكت به.”.
سفيرًا مِصريًّا وكنسيًّا
بدأت مرحلة جديدة في حياة “القَسّ مكاري” ليضع جميع مواهبه في خدمة الكنيسة والوطن؛ فكان الوقت لديه ثمينًا يستثمره في العمل بجِد ليؤدي تلك المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه؛ فأثمر ثمرًا كثيرًا حتى أصبح بحق سفيرًا لـ”مِصر” في مؤتمرات علمية، ومثَّل الكنيسة في ما يمر بها من أحداث.
في عام ١٩٧٣م، حصل “القَسّ مكاري” علي درجة “الأستاذية”. وفي عام ١٩٧٦م، شغَل منصب “رئيس قسم الرياضيات” أكثر من دورة. وفي سبتمبر ١٩٨٨م، عُين أستاذًا متفرغًا وعضوًا بـ”لجنة الرياضيات بالمجلس الأعلى للجامعات”. كذٰلك أيضًا اختير عضوًا بـ”اللجنة العلمية الدائمة لأكاديمية السادات”. وقد نشرت كبرى المجلات العالمية أبحاثه العلمية، وهو يُعرف عالميًّا باسم “بروفيسور فضل الله”. سافر د. “القَسّ مكاري” ليمثل “مِصر” في مؤتمرات وندوات إلى كثير من البلاد منها: “الدِّنْمارك”، و”بولندا”، و”سويسرا”، و”إيطاليا”، و”اليونان”، و”المغرب”، و”العراق”، و”السَّنِغال”. كذٰلك ألقى محاضرات بوصفه أستاذًا زائرًا في كل من “فرنسا” و”ألمانيا الغربية” و”اليونان” و”المجر” وفرع “جامعة القاهرة بالخُرطوم”.
أمّا كنسيًّا، فقد كان أحد أعضاء الوفد الكنسيّ القبطيّ الذي أوفده “البابا كيرلس” في نوڤمبر ١٩٧٠م لتقديم واجب العزاء في وفاة جاثليق الحبشة، والوفد المسافر إلى اجتماع “مجلس الكنائس العالميّ” بشأن التربية الكنيسة عام 1971م. وفي البُلدان التي سافر إليها خدم الشعب القبطيّ المهاجر الذي كان في أشد الاحتياج إلى الخِدْمات الدينية.
تكريمه
في عام 1970م، فاز بـ”جائزة الدولة التشجيعية” وكذا “وسام العُلوم والفنون من الطبقة الأولى” تقديرًا لأبحاثه العلمية؛ وقد ذكرت الجرائد آنذاك: “أوسمة للفائزين بجوائز الدولة في العلوم: «وسام الجمهورية من الطبقة الأولى» هدية من الرئيس «أنور السادات» يقدمه د. «أحمد مصطفى» وزير البحث العلميّ إلى د. «محمد إبراهيم» الحائز جائزة الدولة التقديرية في العلوم، و«وسام العُلوم والفنون من الطبقة الأولى» أيضًا على صدر الدكتور ـ رجل الدين ـ «أديب فضل الله» الحائز جائزة الدولة التشجيعية في العُلوم الرياضية … له … ولأربعة عشَر من شباب العلماء في فُروع العلم المختلفة.”. كذٰلك حصل علي “جائزة أفضل بحث علمي” عام 1995م. وتقديرًا لرحلة العطاء المستمر، وفي احتفال مهيب، كرمته “كلية العُلوم بجامعة القاهرة” عام 2013م كأحد رواد الرياضيات بالجامعات المِصرية لإنجازاته وأبحاثه العلمية. وعلى المستوى الكنسيّ، جاءت ترقية “القَسّ مكاري” إلى رتبة “القُمُّصية” بيد صاحب القداسة “البابا تواضروس الثاني” وذٰلك يوم الأحد 5/3/٢٠١٣م.
وفي التاسع من إبريل الماضي، رحل عن عالمنا “القُمُّص مكاري عبد الله”، لٰكنه لم يرحل عن ذاكرة التاريخ ولا ذاكرة أولٰئك الذين عاملوه: سواء في المجال الدينيّ فذُكر عن “البابا كيرلس” أنه قال له يوم رسامته: “عارف أنا سميتك «مكاري» ليه؟ لأنك هتكون طوباوي!”، أو المجال العلميّ فكتب أحدهم يقول: “الأمانة العلمية تحتم عليَّ أن أشهد لهٰذا المعلِّم الفاضل والأستاذ الجليل الذي تعلمت على يديه أفضل العلم عام 1999م. رجل قمة في الأخلاق والتواضع والعلم …”. و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي …!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ